يخطئ الكثير من المراقبين بزعمهم أن الحظر العربي للنفط عام 1973م، بالرغم من أهميته، بأنه هو السبب الرئيسي في تصحيح أسعار البترول، بل إن حقيقة الأمر أن السبب الرئيسي في تذبذب أسعار النفط في السبعينيات هو تعويم الدولار (العملة الرئيسية في تداول السلع العالميه)، بعد أن تنصلت أمريكا من ارتباط دولارها بالذهب عام 1970م، إن تعويم الدولار ليس فقط السبب الرئيسي في تذبذب أسعار النفط منذ ذلك الحين، بل إنه هو في حقيقته أهم مرحلة مفصلية في تاريخ العملات الدولية وتسعير السلع عالمياً.
فكما هو معروف أنه بعد الحرب العالمية الثانية، تبوأ الدولار عبر السنين القاعدة الصلبة لازدهار الاقتصادي العالمي، وكان مصدر الثقة العالمية العالية ليس لأنه عملية أمريكا القوية اقتصادياً، بل لأنه مرتبط بالذهب، مما جعل من الدولار العملة المستخدمة في التجارة الدولية وحتى في المعاملات الداخلية لكثير من البلدان، وذلك من جراء ربط صرف العملة الداخلية لكثير من البلدان بالدولار الذي هو بدوره مرتبط بالذهب، وبعد أن قامت أمريكا بتعويمه في بداية السبعينيات وفك ارتباطه بالذهب، استمر الوضع العالمي ذلك كما هو حتى بعد فك ارتباط الدولار بالذهب، وإكمالاً لدائرة قوة ومركزية الدولار التراكمية، عملت أمريكا وحلفاؤها الغربيون على إبقاء الدولار كعملة دولية تستخدمه أمريكا والغرب، وكذلك دول أوبك كعملة في تجارة النفط الدولية، وتتم على ضوئه إعادة تحويل المنتجات والسلع والثروات إلى احتياطيات مالية بالدولار حجمها في الوقت الحالي يتجاوز ثمانية تريليونات دولار، وموظفة بشكل كبير في استثمارات في الاقتصاد الأمريكي وأسواقه الداخلية في مستندات الخزانة الأمريكية وغيرها من المدّخرات بالدولار كالأسهم الأمريكية والعقارات وما شابهه.
من ذلك نرى أن فك الارتباط عن الذهب والبقاء على اعتماد الدولار في تسعيرة النفط، وبالتالي التجارة والمعاملات الدولية حقق ولا زال يحقق لأمريكا دور الخزانة العالمية، التي تطبع الدولارات بغطاء لا تملكه من احتياطيات استثمارية أجنبية، ولكن ما زال الى وقتنا الحالي يحظى بالقبول العالمي، ومن الغرابة أنه لا زال الكثير من المراقبين يخطئون باعتقادهم بأن الحظر العربي للنفط عام 1973 م هو السبب الرئيسي في تصحيح أسعار البترول، فهذا الزعم ليس صحيحاً، بل كما أشرنا أن الحقيقة تكمن في فك ارتباط الدولار عن الذهب عام 1970م واستمرار أوبك باعتمادها الدولار في التعاملات البترولية، وقبول العالم بالدولار الأمريكي كعملة رئيسة في معاملاتها التجارية، فإن أكثر من ثلثي مبادلات العملات العالمية يتم حالياً عبر الدولار، ويتحكم بها الدولار، الذي يمثل ثلثي الاحتياطيات المالية العالمية، مما يجعل من الولايات المتحدة البنك المركزي الدولي، وشيكاته هي الدولار والتي تتحكم في سعر صرفها الولايات المتحدة.
وعلى ضوء تدني سعر صرف الدولار والأزمات المالية المتعاقبة التي حدثت مباشرة بعد فك ارتباط الدولار بين عام 1973 و1974 إلى وقتنا الحالي، وما يثور سؤال منطقي ويخص أوبك وبالتحديد مايخص المملكة بطريقة مباشرة كأكبر دولة منتجة ومصدرة للنفط، وهو مدى الأهمية الاقتصادية العالمية في الاستقلال عن الدولار، وتحييده أو حتى إقصائه كعملة وحيدة في التعاملات النفطية، فلا ريب في أن الاستمرار على البقاء في استخدام الدولار عالمياً رغم ما تعانيه اقتصاديات أمريكا، يحقق مكاسب لا تحصى للاقتصاد الأمريكي على حساب الدول المصدرة للنفط، ولكن يثور تساؤل منطقي وهو مَن الذي يدفع تلك المكاسب؟ أو بمعنى آخر مَن الخاسر الفعلي من جراء تدني سعر صرف الدولار وضعف الاقتصاد الأمريكي؟ والجواب الجلي الواضح: هو في الدرجة الأولى الدول المنتجة والمصدرة للنفط التي تعتمد على الدولار في معاملاتها الاقتصادية والنفطية، وما زالت تصر على تمسكها بالدولار رغم الكبوات والحالات السيئة التي يمر بها الدولار والاقتصاد الأمريكي، فالتجارة الدولية في بضائع مثل النفط والمعادن والمحاصيل تتم بالدولار الذي لا يعتمد على أي غطاء أو احتياطي، بل إن اعتماد الدولار في التجارة الدولية وبالأخص التعاملات النفطية يحقق لأمريكا ودولارها تغطية احتياطية من نفط دول الأوبك التي لا تملكه الحكومة الأمريكية، ويحقق لها دور الخزانة العالمية أو البنك المركزي للعالم، وعليه فإن أمريكا تطبع عملات تحظى بقبول وثقة العالم، وتلتزم بالدفع مقابل هذه العملات، ولكن وفي الآونة الأخيرة، بسعر هي تقرره، وبهذه الأسباب، أي اعتماد الدولار في التعاملات النفطية وقبول أو تمسك الدول المنتجة للنفط بالدولار الأمريكي كعملة رئيسة في معاملاتها النفطية على الرغم من التراجعات التي مني بها الاقتصاد الأمريكي والعملة الأمريكية منذ عام 1973 إلى وقتنا الحالي مقابل العملات العالمية الأخرى، تجعل من أمريكا في الواقع هي الآمر والناهي، والمقرر لأسعار النفط القائمة على الدولار والذي تتم إعادته، أي تحويل «الدولارات النفطية»، من دول الأوبك إلى أمريكا في شكل استثمارات في الولايات المتحدة.
وفي ظل زيادة الطلب العالمي الحالي على النفط، ودخول مستهلكين دوليين جدد يفوق استهلاكهم استهلاك الولايات المتحدة كالصين والهند، ارتفعت أسعار النفط العالمية المقيمة بالدولار، ولكن تراجع الدولار المستمر وتدنيه مقابل العملات الأخرى، أديا في حقيقة الأمر إلى تدهور أسعار النفط وعوائده على مالكي هذه السلعة الاستراتيجية الناضبة، نظراً لارتباطه بالدولار.
هذا وسنلقي الضوء في المقال اللاحق على ما هو متاح لأقطار الأوبك للتعامل مع أهم موضوع في تسعيرة النفط، وهو طرح موضوع استراتيجية تسعيرية للنفط الذي لا زال أهم محرك في اقتصاديات الدول، وبالتالي أخذ تلك الاسترايجية في عين الاعتبار مسايرة الواقع الدولي العام، وعدم القفز فوق المعطيات الدولية التي تتسم بالبراجماتية، وتعدد الأقطاب والمحاور الدولية.
نقلا عن جريدة اليوم