إن من أهم صفات الاقتصاد الدولي هي البراجماتية ومسايرة الواقع وعدم القفز فوق المعطيات الدولية، وبالتحديد عدم معاداة أمريكا بوجه الخصوص، ولكن في الوقت نفسه يجب أن نكون واعين أن النفط هو المحرك الرئيس في الصناعة الحديثة، ويعد حاليا أهم المحركات في اقتصاديات الدول، من هنا فإن طرح موضوع استراتيجية تسعيرية للنفط وإحياء مشروع سلة العملات أو ببساطة البدائل المتاحة للتسعيرة كاليورو مع الدولار أو لسلة من العملات الدولية، والذي يجب أن يكون مستنداً إلى واقع النفط نفسه ويكون تعاملنا معه بقدر كبير من التبصر والدراية والحكمة والاستقلالية وذلك للتعرف على متغيراته ولاستيعاب معطياته، ومن البدهي والمملكة تملك أكبر احتياطي في العالم أو ربع الاحتياطي العالمي المؤكد، يقدر بـ 261 مليار برميل، ويملك ثالت أكبر احتياطي غاز في الشرق الأوسط يقدر بـ حوالي 288 تريليون قدم مكعب، وأكبر منتج ومصدر للنفط، فإن التسعيرة النفطية والقرارات التي تتخذ في شؤون النفط هي قرارات يجب أن يكون مضمونها يتناسب مع المنفعة الاقتصادية والاجتماعية لنا كدولة منتجة للبترول مع تعظيم دالة النمو الاقتصادي تحت المحددات المعروفة للمصدرين في تأمين حقهم من السوق ومكانتهم في الاحتياطي النفطي والعالمي وفائدته من العملية الإنتاجية التي يقوم بها تحت ظروف المحددات الجيولوجية والاقتصادية للاحتياطيات النفطية، فالإحصائيات توضح أن السوق النفطية العالمية تواجه مستهلكين دوليين جدداً ربما يفوق استهلاكهم الولايات المتحدة، كالصين والهند إضافة إلى اليابان وكوريا والدول الأوروبية.
قرارات مصيرية
لذا فالقرارات المتعلقة بالنفط وتسعيرته يجب ألا تنصب فقط على قرارات تتمخض عن ردود أفعال أو عن نتائج السوق العالمية التنافسية التي تتحكم فيها الظروف العالمية من حرب أو سلم أو نمو أو ركود اقتصادي أو مما تتحكم فيها الدول الصناعية الكبرى المستهلكة للنفط، سواء أكان ذلك بالنية أم بالنتيجة كتذبذب سعر صرف الدولار أو كالأزمة المالية الحالية، وعليه فمن الواجب علينا تمييز هذه الثروة وعائداتها عن الإنتاج الزراعي المتجدد أو الصناعي القائم على أساس تراكمي مثلاً، وربما يتساءل أحدنا، وهو محق في ذلك، أنه إذا اتبعنا هذا المنظور الشمولي للنفط مع الأخذ بالتزاماتنا الدولية كأكبر دولة منتجة ومصدرة للنفط فلربما ينتج عنه تعارض في مصالح طرفي المعادلة المنتج والمستهلك؟، ولكنه معروف أن التعارض قائم وأزلي لا يمكن إزالته في سوق المزادات الاقتصادية والسياسية التي تتبعها الدول العظمى مع باقي دول العالم صغيرة وكبيرة، واقتناعنا بذلك فإنه من الممكن تخفيض حدته وذلك بالتنسيق مع الدول الكبرى التي تعاني مشكلات ناجمة عن ارتباطها بالدولار وبالتالي بالاقتصاد الأمريكي، إن الواقع الحالي يتطلب من الدول المنتجة والمصدرة للنفط جميعاً التعاون على المستوى الدولي مع الدول الأخرى كروسيا والصين واليابان وكوريا والاتحاد الأوروبي وباقي دول العالم بالتعامل مع الدولار بواقعية وبعمل اقتصادي عقلاني وذي نظرة استراتيجية تسعيرية واضحة بدلا من المصادمات مع هذا أو ذاك، ولربما استراتيجية عقلانية باستبدال الدولار بمخزون عالمي جديد من سلة من العملات أو حتى بما يعرف بـ Special Drawing Unit الذي يعتمد لصرفه (قيمته) على سلة من العملات العالمية الاربع الجنيه الاسترليني والين الياباني واليورو بالاضافة الى الدولار الامريكي، وتدار بواسطة صندوق النقد الدولي وذلك كمرحلة اولى جديرة بالاهتمام والتبني.
هل ثمة عواقب وخيمة؟
التاريخ يوضح لنا أن الانفراد بالمواقف ولو كانت صحيحة ممكن أن ينتج عواقب وخيمة، ومما لا شك فيه أن إقدام صدام حسين في الربع الأخير من عام 2000م على وقف التعامل بالدولار الأمريكي في التجارة الخارجية واعتماد اليورو اعتبارا من الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2000م، كان خطوة سياسية خطيرة ادت الى نحره شخصياً ونهاية الدولة العراقية برمتها وليس فقط نظامه، إلا أن مردودها الاقتصادي كان إيجابياً وملموساً فلقد حسّنت موارد العراق بفضل ارتفاع قيمة اليورو مقابل الدولار، لقد كان اعتماد العراق عملة «اليورو» الأوروبية في تعاملاته النفطية الدولية أبلغ الأثر في الاقتصاديات الخاصة بأوضاع الطاقة والنفط العالمية لا يضاهيه في الحدث التاريخي إلا موجة تأميم النفط في منتصف الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، ولكن هيهات أن يستمر ذلك الحدث الذي يعد الأعظم وسلاحا فعالا وخطيرا لو انه بني على نطاق شامل لأدى الى استقلال النفط عن الدولار والقضاء حتى على هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، وربما الى انتكاسة امريكا وتقوقعها على نفسها.
لقد قامت سلطات الاحتلال الأمريكية بإيقاف تعاملات العراق النفطية باليورو في الأسواق العالمية والعودة بها إلى الدولار في الأسبوع الأول من الغزو، وبعد الاستيلاء المباشر على منابع النفط العراقي وبدأ التمثيل بكوفي عنان الذي وافق على قرار العراق باعتماد اليورو بدل الدولار عام 2000م وتلبيسه التهم في اتفاقية النفط بدل الغذاء والدواء، ولقد واجه صدام حسين في نهاية الامر الاعدام، كما أن تهديد معمر القذافي أواخر حكمه بتغيير الدولار كعملة لبيع النفط الليبي بعملات اخرى ربما يكون السبب في الاطاحة به بمساعدة سلاح الجو الامريكي ومن ثم اعدامه، فالعلامة الفارقة للزعماء المطالبين بتغيير عملة الدولار هي الاعدام، ولكن تبقى التجربة العراقية التي بدأت في أواخر عام 2000م هي التجربة الجديرة بالدراسة والتمعن والتكيس من الوجهة الاقتصادية البحتة والنظر في مدى الحاجة الآن إلى اعتماد الدول المنتجة والمصدرة للبترول كمجموعة بـ«اليورو» كعملة بديلة في التعاملات النفطية عن الدولار الذي لا يزال مستمراً في تدني قيمته، فمن الوجهة الاقتصادية البحتة، فالعراق خسر من الموارد النفطية الكثير من المليارات منذ أعيد قسراً إلى حظيرة الدولار بل انه خسر كيانه كدولة، وبالرغم أن تغيير الدولار بسلة من العملات العالمية يعني بداية نهاية الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم، ولربما يتسبب في استمرار ضعف اقتصادها داخلياً، إلا أن الواقع يوضح أن استيرادات دول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان والهند أكثر أضعاف المرات من استيرادات الولايات المتحدة، ونسبة استيرادات دول منطقة الشرق الأوسط من دول الاتحاد الأوروبي والصين واليابان والهند يعادل أضعاف أضعاف استيراداتها من أمريكا، وموضوع تأمين تجهيزات الطاقة يحتل المرتبة الأولى في أولويات الأمن الأوروبي والصين والهند.
بورصة نفطية شرق أوسطية
لقد سبق وان اقترحنا في عام 2003م مشروع إنشاء بورصة للتداول النفطي في المملكة العربية السعودية وتم نشره في الصحافة المحلية، وأوضحنا في حينه أن المناخ ملائم جداً لإنشائها؛ نظراً لأن تلك البورصة المقترحة ستسد فجوة موجودة بين البورصات العالمية، بحيث تغطي المكان، أي منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي الزمان وذلك بسدها الفجوة الزمنية الناشئة من اختلاف وفروق التوقيت، وكذلك بالتعامل بالعملات الدولية، ولما فيها من مصالح جمة للمملكة واقطار اوبك وكذلك والعالم أجمع في إيجاد آليات عمل جديدة لتحقيق الاستقرار في الأسعار، بجانب قرارات منظمة الدول المنتجة للنفط «أوبك»، وأنها ستسهم بإيجاد آليات شفافة تتشكل بموجبها أسعار النفط وبشتى العملات، كما أن وجود بورصة للبترول في السعودية سيشكل كذلك أساسا شفافاً لإمدادات النفط العالمية وأداة معيارية للنفط العربي المصدر للاعتراف به كصنف محدد من النفط على أنه قياسي في العالم، وستساعد تلك البورصة على إحلال صنف البترول العربي محل الصنف العالمي الآخر من نوع «برنت»، الذي تتحدد عليه الأصناف الأخرى من النفط الذي يتحدد سعرها بعد ذلك إما بحسم أو زيادة بحسب جودتها، رغم محدودية إنتاجه وإمداداته، ففي ظل وجود معاملات بورصة مفتوحة في سوق السلع يمكن أن يحل صنف محل آخر بمواصفاته المماثلة، وسيتحكم في اختيار وتحديد المعيار النفطي في سوق البورصة المفتوحة، البلد الذي تقع فيه السوق النفطية.
وبيناً في حينها أن معظم الشروط لإقامة البورصة النفطية على أراضي المملكة العربية السعودية متوافرة، نظراً لتميزها كأكبر منتجي ومصدري البترول، وفي الوقت نفسه تمتعها بمناخ ملائم يساعدها على تكوين وتأسيس تلك البورصة، باعتبار أنها أهم القنوات التي تحكم العلاقة بين قوى الإنتاج والاستهلاك مع عدم ازدواج أعمال البورصة مع مناطق نفوذ البورصات الأخرى، نظراً للموقع الجغرافي المتميز في قلب الشرق الأوسط بين الخليج العربي والبحر الأحمر والبحر الأبيض والبحر العربي، حيث سيكون عمل تلك البورصة مكملاً لأعمال البورصات العالمية، ولن يكون هنالك ازدواج مع أعمال البورصة مع مناطق نفوذ البورصات الأخرى.
إن دخول مستهلكين دوليين جدد على الساحة الدولية في الآونة الأخيرة جعل مستوى استهلاك الولايات المتحدة في المرتبة الرابعة وربما يتدنى الى الخامسة ثم السادسة دولياً خلال وقت قصير. إن الاستمرار في التعامل بالدولار في المعاملات النفطية ومايعانيه من تدن في أسعاره يلغي هامش المردود الفعلي لمصدري النفط، كما أن تزايد حاجات دول الاقتصادات الجديدة في شرق أوروبا للطاقة، وتعاظم استهلاك الصين والهند للنفط، يطرح على صانعي القرار لكافة اقطار الاوبك، موقفاً مغايراً تماماً عما كان في الماضي، وإن أول خطوة في الاستقلال عن الدولار في التسعيرة النفطية هو البدء الفوري في إزالة عقبة التقنية أمام اعتماد سلة من العملات كتسعيرة للنفط في سوق النفط العالمية البديلة والعمل على تأسيس مؤشر للعملات العالمية «Foreign Currency Marker» للمتاجرة بالنفط، في بورصة نفطية ولتكن شرق أوسطية، حيث إن مؤشرات النفط العالمية الثلاثة «ويست تكساس»، و»برنت»، و«دبي» قائمة على الدولار Dollar Marker فقط، وعليه فيستحسن بالتدرج أولا في تنويع محافظنا العالمية بعملات غير الدولار، ومن ثم البدء في اعتماد العملات العالمية في الصادرات النفطية، ومن ثم نلتفت للصادرات النفطية إلى أوروبا باعتماد «اليورو» ويلحق بها اليابان «بالين»، مع الإبقاء على الدولار لبقية أنحاء العالم والبدء في إنشاء «بورصة الشرق الأوسط للنفط» واستقطاب الخبرات الفنية والاقتصادية العالمية للعمل فيها واعتماد بعض العملات العالمية في تعاملاتها، إلى أن يتم إيجاد سلة من العملات أو عملة تعتمد على مخزون عالمي جديد من العملات يدار بمؤسسات عالمية، وها نحن بعد اكثر من عقد من الزمان على ذلك الاقتراح نجد اننا وكما يطلق عليه اصطلاحاُ «مكانك راوح» والله ولي التوفيق.
نقلا عن جريدة اليوم