أُعلنت منذ أسبوعين ميزانية 2014، وهي أكبر ميزانية في تاريخ المملكة، وكما كتبتُ في الوطن الأسبوع الماضي، فإن المصروفات الفعلية لعام 2013 قد وصلت كذلك إلى مستوى قياسي غير مسبوق في السنوات الماضية.
وكالمعتاد كان هناك ابتهاج بهذا المستوى من المقدرة المالية التي وصلت إليها البلاد مما يمكنها من تنفيذ خطة التنمية الخمسية، التي ينتهي أمدها بنهاية هذا العام، فهذه السنة تشكل آخر فرصة لتحقيق أهداف تلك الخطة ضمن جدولها الزمني المُقر.
وفي الوقت نفسه، تساءل البعض: ماذا يعني أن تصدر ميزانيات تريليونية إذا لم تترجم، سريعاً، إلى مشاريع وبرامج تنموية يلمسها المواطن؟ بل كان هناك بعض الإحباط والتشكيك في إمكانية تنفيذ المشاريع الطموحة التي استهدفتها الميزانية، واستشهدوا بتعثر مشاريع كثيرة سبق اعتمادها، مثل برامج الإسكان والميترو وشبكات سكك الحديد والطرق والمدارس والمستشفيات والمطارات.
ويستلهم هؤلاء المواطنون تعليقاتهم من خطاب خادم الحرمين الشريفين، حين قال حفظه الله بمناسبة صدور الميزانية: "إننا ندرك أن العبرة ليست في أرقام الميزانية بل في ما تجسده على أرض الواقع من مشاريع وخدمات نوعية ينمو بها الوطن وينعم بها المواطن".
وبلا شك هناك مشاريع كُبرى تم إنجازها خلال السنوات الماضية، مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا، وجامعة الأميرة نورة، وقطار الحرمين، وقطار الشمال وغيرها.
ولكن حجم الإنجاز لا يضاهي حجم ما تم اعتماده من مخصصات وما أعلن عنه من مشروعات، ويعبر الكثير من المواطنين عن اعتقادهم بأن التأخير أصبح مُزمناً مستعصياً، لن تتم معالجته من خلال الإجراءات المعتادة، بل يتطلب تدخلاً سريعاً وحاسماً من أعلى المستويات.
وقد تحدّث خادم الحرمين عدة مرات عن الموضوع، وفي خطاب الميزانية أكد ذلك مرة أخرى بقوله: "إن على الوزراء ورؤساء الأجهزة الحكومية كافة مسؤولية تنفيذ مشاريعها وبرامجها وأداء الأعمال الموكلة إليهم بكل إخلاص ودقة ودون تراخ أو تقصير تجاه الوطن والمواطنين، وهم مسؤولون أمام الله ثم أمامنا عن ذلك لينمو الوطن وينعم المواطن". ثم وجه الأجهزة الإشرافية بـ"الرفع إلينا بالتقارير الدورية عن الأداء ومستوياته ومعوقاته".
وفي ظل هذه المتابعة المستمرة، لم يعد معظم المسؤولين يُنكر بأن مشاريعهم تواجه صعوبة في الالتزام بجداولها الزمنية، ولكنهم يعتذرون بأسباب خارج سلطة أجهزتهم.
ويتبادل المسؤولون وممثلو القطاع الخاص الملامة حول التأخير، إذ يحمّل المقاولون السياسات والإجراءات الحكوميةَ المسؤوليةَ، ويشيرون إلى الإجراءات المتعلقة بالمناقصات والمشتريات الحكومية وإجراءات وزارة العمل كأسباب رئيسة، ويقولون إن تأخير دفع مخصصات المقاولين يؤدي إلى فشل كثير من الشركات وخروجها من السوق.
وفي المقابل يشير المسؤولون إلى أن تأخر المشاريع يعود إلى "ضغوط شديدة" على المقاولين، ونقص في عدد المقاولين المؤهلين، الذين يمكن أن توكل إليهم المشاريع.
ومن المؤكد أن بعض المقاولين ليسوا مؤهلين لإنجاز المشاريع التي يلتزمون بها، وأنهم يتعاقدون من الباطن مع منفذين أقل تأهيلاً، يسعون إلى التحايل على المواصفات بهدف تخفيض تكاليفهم على حسب الجودة، ولذلك فإن ضعف التنفيذ ومخالفة المواصفات المتفق عليها يؤديان إلى تأخير الدفعات للمقاولين وإلى نزاعات قانونية تؤدي بدورها إلى تأخير استكمال المشاريع.
ولتقدير حجم المشكلة انظر إلى النمو السريع في حجم الإنفاق الحكومي ومخصصات المشاريع على مدى السنوات القليلة الماضية.
فمنذ عام 2006، تجاوز حجم الإنفاق الحكومي خمسة تريليونات ريال، واعتمدت للعام القادم (855) مليار ريال، أي أن إجمالي الإنفاق الحكومي المعتمد منذ ذلك العام سيبلغ ستة تريليونات ريال.
وخلال تلك الفترة، تم اعتماد آلاف المشاريع. ففي عام 2013 وحده، قامت وزارة المالية بمراجعة (2330) مشروعاً بلغت قيمتها (157) مليار ريال. واعتمد لعام 2014 آلاف أخرى من المشاريع بلغت قيمتها (248) مليار ريال أخرى، حسب بيان الميزانية.
ولا شك أن هذا العدد غير المسبوق من المشاريع، وتزايد صعوبتها وتعقيدها، قد أوقعا ضغطاً كبيراً على إمكانيات الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص، الإدارية والفنية، فاق قدرتها على الإنجاز وفق الجداول الزمية المُقرّة.
ولا يوجد إحصاء دقيق منشور عن حجم المشكلة، وإن كان تقديرها بالآلاف على الأقل. وهناك تقدير رسمي بأن المشاريع "تحت الإنجاز" تبلغ قيمتها نحو تريليوني ريال.
ولما كانت الاعتمادات السنوية للمشاريع هي في المتوسط نحو (200) مليار ريال، فإن مبلغ تريليوني ريال يشير إلى مشاريع سنوات عديدة ماضية ما زالت "تحت الإنجاز". وقد نظرت لجان خاصة وحكومية عالية المستوى في أسباب المشكلة ومحاولة حلها، وناقشتها المؤتمرات والأبحاث العلمية، دون حل مرضٍ حتى الآن.
ويشكل النقص في المعلومات المتوفرة عن عدد المشاريع المتأخرة والمتعثرة، وأسباب تأخرها أو فشلها، أحد أسباب صعوبة التوصل إلى حل جذري.
فانعدام الشفافية في هذا الأمر أحد مصادر الإحباط والشكوى لدى المواطنين والمختصين سواء، مما يجعل النقاش حول المشكلة نظرياً أو عقيماً يقتصر على تبادل الاتهامات.
ولذلك فإن التنفيذ الدقيق والسريع لتوجيه خادم الحرمين للأجهزة الرقابية برفع تقارير دورية عن الأداء ومستوياته ومعوقاته يعتبر أساساً لحل المشكلة.
وقد تم الإعلان منذ صدور الميزانية بأنه يتم حالياً حصر المشاريع المتأخرة والمتعثرة، وهي خطوة أولى مهمة، يليها تحليل لأسباب الفشل أو التأخير، وهل تعود للإجراءات الحكومية، أو لنقص المقاولين المؤهلين، أو لظروف سوق العمل، أو للإهمال والفساد؟
وقياساً على ما نراه في الدول الأخرى التي مرت بطفرات تنموية مثل المملكة، فإن أسباب تأخير تنفيذ المشاريع قد تكون مشتركة بين القطاعين الخاص والحكومي. فقد تضاعف الاقتصاد السعودي كماً عدة مرات خلال العقد الماضي، لكن القدرات الفنية والإدارية للقطاع الخاص لم تتطور بنفس الوتيرة، كما لم يتطور سوق العمل بما يواكب ذلك النمو.
وبالمثل في القطاع الحكومي، ففي حين تضاعف الإنفاق الحكومي خمسة أضعاف خلال تلك الفترة، لم تستطع إمكاناته الفنية والإدارية مواكبة تلك القفزات السريعة، ولم تتأقلم الإجراءات الحكومية مع متطلبات النمو الاقتصادي المتسارع.
نقلا عن جريدة الوطن