في يوم الاثنين (27 ديسمبر)، أعلنت المملكة ميزانية صِفرية متوازنة لعام 2014 بمقدار (855) مليار ريال للمصروفات والإيرادات على السواء، وهي سادس ميزانية تصدر منذ نشوب الأزمة المالية العالمية في 2008، وتستمر في نهج التوسع المالي الذي تبنته المملكة منذ ذلك الوقت، محتوية على مخصصات كبيرة للتعليم والصحة والبنية التحتية، على الرغم من انخفاض دخل البترول.
ومع إعلان الميزانية التقديرية للعام القادم، صدر بيان هو الأكثر تفصيلاً هذا العام عن أداء المالية الحكومية والاقتصاد السعودي خلال 2013. ويُظهر البيان أن الإنفاق الحكومي الفعلي ارتفع خلال العام الحالي إلى 925 مليار ريال، أي بزيادة 15% عن الإنفاق خلال 2012، وأكثر بنسبة 13% عما كان مقرراً في بداية العام، ولكن البيان لا يوضح أوجه الإنفاق الفعلي تفصيلاً.
ومما يلفت النظر أنه على الرغم من ارتفاع الإنفاق الحكومي إلى مستوى غير مسبوق خلال 2012، فإن معدل التضخم ظل في حدود المعقول (3.35%)، مرتفعاً بشكل طفيف عما كان عليه في 2012، 2.9%، وهذا مؤشر إيجابي للطاقة الاستيعابية للاقتصاد.
وفي مؤشر يثير القلق، انخفض الدخل الفعلي للحكومة بنسبة 9%، من (1240) مليار ريال في عام 2012 إلى (1130) مليارا في 2013، وفي حين كان انخفاض دخلها من النفط ملموساً 11%، ارتفعت إيراداتها غير النفطية بنسبة 14%، من (99) مليارا إلى (113) مليار ريال.
ومع أن المالية العامة ظلت إجمالاً في صحة جيدة خلال 2013، حيث كان هناك فائض بلغ (206) مليارات ريال، إلا أننا نرى بوادر مشكلة قد تتفاقم في السنوات القادمة: حيث انخفضت الإيرادات النفطية بنسبة عالية، كما أسلفت 11%، ولكن المصروفات ارتفعت بنسبة 8%، فمن الواضح أنه إذا استمرت هذه الوتيرة في ارتفاع المصروفات وانخفاض الإيراد فسنعود إلى فترة العجز في الميزانية، ما لم يتم تطوير مصادر جديدة للدخل.
صحيح أن لدى المملكة احتياطات ضخمة قد تصل إلى ثلاثة تريليونات ريال خلال العام القادم، إلا أن ذلك لن يغني عن تنويع مصادر الدخل الحكومي.
وبالنظر إلى أداء الاقتصاد السعودي، فقد بلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي (2.8) تريليون ريال، وهو رقم قياسي لم يسبق تحقيقه، وبذلك تحتل السعودية المرتبة الـ(19) بين الاقتصادات الكبرى، قبل سويسرا والسويد والنرويج وإيران، ولكن معدل نموه عن العام السابق متواضع نسبياً، حيث بلغ 1.5% بالأسعار الجارية حسب البيان الرسمي.
وبالنظر لمكونات الاقتصاد نجد أن قطاع النفط سجل تراجعا بلغ 3.8%، إلا أنه تم التعويض عن هذا الانخفاض من قبل القطاع الخاص الذي سجّل نمواً إيجابياً بلغ 9.3%.
ويجب أن يدفعنا هذا النمو الصحي في القطاع الخاص إلى تقدير دوره في التعويض عن خسائر القطاع النفطي، وأهمية تشجيع القطاع الخاص على القيام بدور أكبر في الاقتصاد، وتعزيز جهوده في تنويع القاعدة الإنتاجية بعيداً عن استخراج وتصدير النفط الخام. وإذا حدث ذلك، فسيكون الاقتصاد السعودي أكثر قدرة في المستقبل على مواجهة التقلبات في أسعار النفط.
وإذا نظرنا إلى صورة التجارة الخارجية خلال عام 2013، فسنجد هنا أيضاً انخفاضاً في قيمة الصادرات النفطية، من (1,300) مليار ريال في 2012 إلى (1,180) مليارا في 2013، بانخفاض بلغ 9%. في حين ارتفعت الصادرات غير النفطية إلى (196) مليار ريال، بزيادة 7%. ومرة أخرى يُظهر القطاع الخاص قدرته على تخفيف الآثار السلبية الناجمة عن تقلبات أسعار النفط وانخفاض قيمة الصادرات النفطية.
وربما كان أكثر ما يهم المواطن هو المشاريع والبرامج التنموية التي تمولها الميزانية. فعلى مدى السنوات الثماني الماضية (2006-2013) تم رصد أكثر من خمسة تريليونات ريال في الميزانيات السنوية، وإذا أضيف إلى ذلك ما رُصد لعام 2014، فإن الإجمالي يصل إلى ستة تريليونات ريال، بالإضافة إلى عشرات المليارات في برامج خاصة إضافية خارج الميزانية العامة.
وخلال تلك الفترة، تم اعتماد آلاف المشاريع، ففي عام 2013 فقط راجعت وزارة المالية (2,330) مشروعاً بقيمة (157) مليار ريال، حسب بيان الميزانية.
وبهذا العدد المهول من المشاريع، أُجهدت الطاقات الإدارية والفنية في القطاعين الحكومي والخاص فوق قدراتها وهي تحاول تنفيذ المشاريع وفق الجداول الزمنية المعتمدة لها، في بلد مترامي الأطراف كقارّة.
ونتيجة لذلك، أصبح التأخّر في تنفيذ المشاريع مألوفاً وإن لم يكن قطُّ مقبولاً. وليس هناك قوائم منشورة بسير العمل في المشاريع المختلفة، وما تأخر منها وأسباب تعثرها، وهذا في حد ذاته أحد أسباب الشكوى التي تسمعها من المواطنين والخبراء على حد سواء، وهم يسعون إلى تقييم سير التنفيذ فيها. وفي حالة نشر تلك المعلومات فسيكون المواطن عوناً للحكومة والجهات الرقابية للتسريع في تنفيذها، أو تفهّم أسباب تأخرها ومحاسبة المسؤولين عن ذلك.
وقد وجه خادم الحرمين الشريفين، مراراً وبصورة علنية، اللوم للوزراء وكبار المسؤولين في بطء تنفيذ المشاريع. ولامست كلمته لدى صدور الميزانية الأسبوع الماضي مشاعر المواطنين الذين يحسون بالإحباط بسبب تأخر المشاريع الحيوية التي يتم الإعلان عنها ولكنها لا ترى النور في آجالها المحددة، حيث قال حفظه الله: "إننا ندرك أن العبرة ليست في أرقام الميزانية، بل فيما تجسده على أرض الواقع من مشاريع وخدمات نوعية ينمو بها الوطن وينعم بها المواطن، ولذلك فإن على الوزراء ورؤساء الأجهزة الحكومية كافة مسؤولية تنفيذ مشاريعها وبرامجها وأداء الأعمال الموكلة إليهم بكل إخلاص ودقة ودون تراخ أو تقصير تجاه الوطن والمواطنين، وهم مسؤولون أمام الله ثم أمامنا عن ذلك لينمو الوطن وينعم المواطن. وعلى الأجهزة الرقابية الرفع إلينا بالتقارير الدورية عن الأداء ومستوياته ومعوقاته.
حفظ الله بلادنا وأدام عليها نعمة الأمن والاستقرار والازدهار".. فهل ستقوم هذه الأجهزة الرقابية بما أوكل إليها من مهام؟
نقلا عن جريدة الوطن