البنك الأوروبي في ثوبه الجديد.. “ما لا تعرفه عن ماريو دراغي!!”

29/12/2013 0
محمد جلال

تولى ماريو دراغي رئاسة البنك المركزي الأوروبي في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2011 بعد أن ورث تركة ثقيلة من جان كلود تريشيه الرئيس السابق للبنك الأوروبي (2003-2011) في وقت كانت منطقة اليورو تشهد أسوأ ايامها منذ العمل بالعملة الأوروبية الموحدة اليورو ثان أكبر العملات المتداولة على مستوى العالم بعد الدولار الأمريكي.

دراغي يقف وحيدا وسط فوضى مالية وانكماش اقتصادي

في ذلك الوقت كانت ازمة الديون السيادية الأوروبية ما زالت مستفحلة وتزداد سوءاً وسط تداعي بعض حكومات دول المنطقة والوقوف على منحدر الإفلاس ودون الوصول إلى حلول جذرية او سياسات واضحة نحو حل الأزمة خصوصا مع انتقال شبح الازمة إلى اقتصاديات كبرى في المنطقة مثل إيطاليا واسبانيا الامر الذي كان يهدد بتفكك وحدة منطقة اليورو وانعكاس ذلك على العائد على السندات للدول المتعثرة ماليا.

فوق كل ذلك كان هناك انكماش اقتصادي بدأ في الربع الأخير من عام 2011 بعد عام ونصف من النمو المستمر لكن كان يتصف بالضعف والهشاشة وسوق عمل ضعيف بحيث كان معدل البطالة فوق 10.0% وعند اعلى مستوى في تاريخ المنطقة.

على الجانب الإداري للبنك الذي كان يتصف بالراديكالية في عهد "تريشيه" جاء دراغي ليجد نفسه وحيدا في المجلس التنفيذي بعد أن قدم اثنين من أبرز الخبراء في إدارة البنك في نهاية عهد تريشيه تحديدا في عام 2011 وهم الاقتصاديين يورغن ستارك المسؤول عن ملف الشئون الاقتصادية بالمجلس وأكسل فيبر رئيس البنك المركزي الالماني السابق وبالتالي اخذ دراغي على عاتقه تشكيل المجلس من جديد كما سيتضح فيما بعد.

ومع عدم وضوح الرؤية واتفاق صانعي القرار تراجعت ثقة العالم والمستثمرين في قادة منطقة اليورو والبنك المركزي الأوروبي ليزيد ذلك من أعباء أي شخص قد يتولى هذا المنصب الهام.

مهام صعبة امام تعدد الحكومات 

ربما رئاسة البنك المركزي الأوروبي من أصعب المناصب في ذلك المجال مقارنة بباقي البنوك المركزية الرئيسية حول العالم، لنا ان نتخيل كيف يمكن لرئيس البنك المركزي التعامل مع 17 وزير مالية لحكومات مختلفة وسياسات مالية غير موحدة واقتصاديات متباينة الأداء والاحجام.

ويزداد الامر صعوبة عند حدوث الازمات التي تتخطى الحدود وتتطلب تدخل مباشر وسريع من البنك لإنقاذ الموقف، حيث ان البنك المركزي الأوروبي مؤسسة دولية يخضع عمله وفقا لمواثيق ومعاهدات دولية تنظم شكل وعمل إدارة البنك بحيث ان اية تعديل لمهام البنك تتطلب مناقشة في البرلمان الأوروبي وموافقة الدول الأعضاء عليها. وبالتالي هناك بعض القيود مفروضة على عمل البنك مثل التمويل المباشر لحكومات منطقة اليورو.

وذلك إذا ما قورن بالولايات المتحدة الأمريكية أو اليابان بحيث يستطيع ان يجلس رئيس البنك المركزي هناك مع وزير المالية وان يتم حل المشاكل المالية التي تواجه الحكومة بما يفيد الاقتصاد ودون وجود عوائق او معاهدات تحول دون ذلك.

عهد جان كلود تريشيه

لمن واكب عهد جان كلود تريشه الفرنسي الأصل ويقارنه بما نراه الآن من تطورات في كيفية إدارة البنك سيلحظ كيف كانت ادارته تتسم بالراديكالية والتقليدية وأيضا الجمود.

تريشيه كان من نوع المديرين الراغب في معرفة كل شيء وكان تقريبا الرجل الأوحد داخل البنك وامام العالم الخارجي، لم نكن نرى إلا نادرا تصريحات من أعضاء المجلس التنفيذي فيما عدا تصريحات رئيس البنك المركزي الألماني.

كان رد الفعل البطيء للغاية لتطورات الاحداث في الأسواق المالية السمة الغالبة على تحركات البنك الأوروبي لاسيما بعد انهيار الأسواق المالية في نهاية عام 2008 وبدء دخول العالم في ازمة مالية الأسوأ منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.

لنا أن نعلم ان إدارة تريشيه للبنك الأوروبي كان الأكثر اعتمادا على أعضاء من المانيا وأيضا استخدام أسلوب البنك المركزي الألماني في محاربة التضخم بصفة خاصة والسياسة النقدية بصفة عامة.

ماريو دراغي رئيسا للبنك المركزي الأوروبي

عندما تولى دراغي رئاسة البنك شاءت الظروف ان يعيد هيكلة المجلس التنفيذي الذي ومكونا في معظمه من أعضاء جدد بالمجلس بينهم عضوين ليس لديهم سابقة عمل في البنوك المركزية –المجلس مكون من ست أعضاء بما فيهم رئيس البنك وهو نواة اتخاذ القرار داخل البنك-حيث عمد على كسر التقاليد والعرف المتبع في أن يتولى المانياً الملف الاقتصادي.

توزيع المهام على فريق الإدارة 

وبالتالي كان من المفترض أن يتولى يورج اسموسن هذا الملف خلفا للألماني يورغن ستارك إلا ان دراغي كلف اسموسن بتولي مهمة ملف العلاقات الدولية وهو دور يعتمد على خبرته السابقة في مواجهة الازمات المالية عندما كان نائب وزير المالية الألماني.

فلسفة دراغي في توزيع المهام كانت بسيطة للغاية لكنها كانت ذو تأثير كبير على تغيير المناخ الداخلي في أسلوب الإدارة حيث اعتمدت على نقاط القوة لدى كل عضو في المجلس بدلا من الانسياق وراء العرف والتقاليد.

وتولى البلجيكي بيتر بريت الملف الاقتصادي وهو ذو خبرة مخضرم في صندوق النقد الدولي والقطاع الخاص، بينما تولى الفرنسي بنوا كيغ عمليات السوق المفتوحة وكان يتولى في السابق رئيس مكتب الدين في وزارة المالية الفرنسية.

بينما كلف البرتغالي فيتور كونستانسيو – نائب رئيس البنك-مع إيف ميرش من لوكسمبورغ تولي مسئولية تهيئة البنك الأوروبي في عملية الاشراف على البنوك الأوروبية التي من المفترض ان تبدأ مع العام الجديد 2014.

"الغباء ان تكرر نفس الشيء بنفس الخطوات وتتوقع نتيجة مختلفة" – ألبرت آينشتاين، عالم فيزياء

أسلوب جديد .. نتائج جديدة 

اختلف أسلوب دراغي الاداري بشكل جذري عن سابقه تريشيه، دراغي مستمع جيد لزملائه في المجلس وبخلاف ذلك على حد قوله في أنه يثق في زملائه وبالتالي يقوم بتفويضهم في المهام المكلفين بها.

إذا كنت متابع جيد لتحركات البنك المركزي الأوروبي منذ نحو العامين ستجد أوجه جديدة غير رئيس البنك تتحدث باسم البنك وتؤثر في تحركات الأسواق وذلك على غير ما اعتدناه تحت قيادة تريشيه للبنك. 

ربما اسموسن وبنوا وأخيرا بريت الأكثر ظهورا على الساحة الإعلامية، إذا انه توجه جديد لدى البنك وليس جديدا في الأسواق المالية لاسيما ان عادة ما يتحدث أعضاء اللجنة الفيدرالية المفتوحة – لجنة السياسة النقدية-بالبنك الفيدرالي.

لا يقف دراغي على التفويض فقط بل امتد إلى ما وراء ذلك بحيث انه يعمل بروح الجماعة ويتناقش معهم وأيضا يدفع بالأعضاء إلى تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات بأنفسهم ومحصلة ذلك كله العمل تحت مظلة توافقية.

دراغي وأزمة الديون السيادية

تغيير المناخ وأسلوب الإدارة داخل دولاب العمل في البنك الأوروبي أسهم في احداث نقلة نوعية في أداء البنك منذ بدء العمل بالعملة الأوروبية الموحدة اليورو في عام 1999 وعلى الأخص في فن التعامل مع الازمة المالية وأزمة الديون السيادية.

ماريو دراغي من مواليد روما، إيطاليا عام 1947 وعمل كرئيس البنك المركزي الإيطالي ومدير عام الخزانة الايطالية وأيضا عمل في البنك الدولي وترأس مجلس الاستقرار المالي الدولي منذ تأسيسه (مارك كارني تولى المنصب فيما بعد)، كما عمل في القطاع الخاص عندما كان نائب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لمجموعة جولدمان ساكس الأمريكية.

عندما تولى دراغي مهام منصبه كرابع رئيس للبنك المركزي الأوروبي في 2011 أثبت انه يمكن استخدام أدوات وآليات لم يعتقد البعض منذ سنوات عديدة في أن يقبل عليها البنك.

 التدخل الغير مباشر في الأسواق

لا يخفى على أحد كيف برز دور البنك في عهده لاسيما إزاء ازمة الديون السيادية الأوروبية وربما تصريحه الأشهر والأقوى على الاطلاق عندما قال "سيعمل ما يلزم لإنقاذ منطقة اليورو مهما تطلب الأمر" في يوليو/تموز 2012 ليعبر ذلك عن مدى مهارته في توصيل الرسالة بشكل واضح إلى الأسواق وجود روح جديدة تهدف إلى تفادي أخطاء الماضي وإيجاد حلول للأزمة في ظل المتاح لديه من سياسات وآليات.

جدير بالذكر أن تصريحات دراغي تعتبر الأقل إذا ما قورنت بترييشيه لكن كانت الأوضح بالنسبة للأسواق.

أيضا نرى كيف يتفاعل البنك بشكل سريع مع اية تسريبات أو تكهنات في الأسواق ولا يتطلب الأمر ظهور دراغي بنفسه لكن نرى أعضاء المجلس التنفيذي يقومون بالرد على تلك الأمور.

سعر فائدة سلبي وبرنامج شراء سندات

 من ضمن الأمور التي كانت مثار نقاش في الأسواق خلال العام الجاري هو التلميح بأن يتجه البنك نحو تطبيق سعر فائدة بالسالب على ودائع البنوك لديه ضمن خطوة أكثر صرامة نحو دفع البنوك إلى تسهيل عمليات الائتمان وتوفير السيولة في الأسواق.

أيضا برنامج شراء السندات الأوروبي (OMT) (حتى الان لم يتم تفعيل البرنامج) كان من أحد الأدوات التي استحدثها البنك في عهد دراغي لإيجاد مخرج نحو تخفيف الضغوط التصاعدية على عائد السندات السيادية للدول المتعثرة ماليا وهذا البرنامج حظي بثقة الأسواق ومن ثم الثقة في اليورو وقدرة البنك المركزي الأوروبي على التصدي للأزمات.

فاعلية وسرعة الاستجابة للأسواق

يلاحظ ان البنك المركزي الأوروبي خرج من إطار الجمود واتخاذ القرارات البطيئة وعدم الوضوح تجاه المتعاملين في الأسواق بحيث بات البنك يتفاعل بشكل سريع مع مستجدات الأحداث التي تطرأ على الساحة الاقتصادية وفي الأسواق المالية.

جدير بالذكر أن اول اجتماع للجنة السياسة النقدية – المجلس التنفيذي ويضم ست أعضاء بجانب 17 عضو يمثلون البنوك المركزية للدول الأعضاء في منطقة اليورو-أقدم على خفض سعر الفائدة وكانت المحصلة أربعة قرارات بالخفض حتى نهاية عام 2013 (سعر الفائدة 0.25%).

على سبيل المثال البنك استجاب لتكهنات وضغوط الأسواق في مايو/أيار 2013 وقام بخفض سعر الفائدة من 0.75% إلى 0.50% وفقا للمتوقع في الأسواق بعد سلسلة بيانات اقتصادية سلبية صدرت عن المنطقة.

بينما كان أكثر سرعة من الأسواق عندما تراجع التضخم في أكتوبر/تشرين الأول 2013 إلى أدنى مستوى في أربعة أعوام عند 0.7% رأينا كيف فاجأ الأسواق بخفض آخر لسعر الفائدة في الشهر اللاحق من 0.50% إلى 0.25% بينما كانت التوقعات بأن يؤخر القرار حتى نهاية العام.

على اية حال لم يكن تريشيه على هذا القدر من السرعة عند مواجهة مخاطر انكماش تضخمي والابتعاد عن المستهدف الرئيس للبنك والحفاظ على استقرار الأسعار.

الإفصاح عن التوجه المستقبلي لسعر الفائدة

لأول مرة يتم الإفصاح عن التوجه المستقبلي للسياسة النقدية لتهدئة الأسواق بعد أن تزايدت المخاوف إزاء توجه البنك الفيدرالي إلى تقليص السياسة النقدية في وقت مبكر من العام 2013، عزيزي القارئ لو كان هذا منذ خمس أعوام لظل البنك الأوروبي يتميز بالجمود لاتخاذ خطوة الإفصاح عن التوجه المستقبلي.

ما فعله البنك تحت قيادة دراغي انه كان أكثر مرونة مع نبض السوق وواكب التوجه العالمي الجديد من البنوك الرئيسية العالمية، الفيدرالي كان صاحب هذه المبادرة وربط السياسة النقدية بمستهدفات اقتصادية، ثم أقدم على تلك الخطوة البنك المركزي الياباني وتبعه البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي البريطاني.

وفي يوليو تموز من عام 2013 فاجئ دراغي الأسواق بأن البنك قد يبقى على سعر الفائدة عند المستويات الحالية او ما دون ذلك لفترة من الوقت مؤكدا ان البنك يتبنى سياسات توسعية طالما استدعى الأمر. ويلمح نحو تطبيق سعر فائدة سلبي على الودائع.

نهاية عام 2013

لنا أن نتذكر كيف كانت مستويات الثقة متدهورة عندما بدأ دراغي عمله الجديد، لكن بعد أكثر من عامين تقريبا حظي البنك ومنطقة اليورو على ثقة المستثمرين والعالم من جديد بفضل مناورات سياسة دراغي مع الأسواق التي أرى انها لم تحمل البنك تكلفة كبرى مثل المناورة ببرنامج شراء السندات الذي لم يتم تفعيله بعد.

مؤشرات الثقة في منطقة اليورو أظهرت تحسنا ملحوظ والبيانات الأخيرة أظهرت ارتفاع مستوى الثقة إلى أفضل مستوى منذ 27 شهر، وفي المانيا ارتفع الثقة إلى أفضل مستوى منذ سبعة أعوام ونصف في نهاية عام 2013.

أسواق الدين تشهد هدوء نسبي ملحوظ بنهاية عام 2013 والعائد على السندات في اهم الدول المتعثرة تراجع بشكل ملحوظ، في إيطاليا – ثالث أكبر اقتصاديات منطقة اليورو-انخفض العائد على سندات اجل عشر اعوام من 7.50% في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 والأعلى تاريخيا ليسجل بنهاية عام 2013 مستويات 4.00% وأيضا في اسبانيا – رابع أكبر اقتصاد-انخفض من 7.74% في يوليو/تموز 2012 ليستقر عند مستويات 4.2% في نهاية 2013. 

ويبقى التحدي امام البنك خلال الأعوام المقبلة وما تم سرده في هذا المقال يعكس بعض النقاط الإيجابية لكيفية تغيير أسلوب إدارة اهم البنوك المركزية في العالم وبالطبع هنالك بعض من السلبيات لكن إجمالا أداء البنك اختلف تماما في عهد دراغي والتي ربما تكون نقطة تحول رئيسية في سياسات للبنك منذ تأسيسه.