نشر صندوق النقد الدولي تقييمه السنوي للاقتصاد الخليجي. ويسجل التقرير سرعة نمو اقتصادات دول مجلس التعاون والتحسّن الكبير في ميزانها التجاري، خلال فترة ما بعد الأزمة المالية العالمية، إلا أن الاقتصاد الخليجي مقبل على تحديات مهمة خلال عام 2014 وما بعده، ومن الضروري مباشرة الاستعداد لها ومواجهتها.
ولنستعرض أولاً الأخبار السارّة. فمنذ عام 2009، ازداد حجم الناتج المحلي الإجمالي الخليجي، أي إجمالي قيمة السلع والخدمات المتداولة، بنسبة (68%)، من (955) مليار دولار في 2009 إلى (1,600) مليار في 2013. وارتفع ميزان الحساب الجاري بنسبة (23.5%)، من 108 مليارات دولار عام 2009 إلى 361 مليارا في 2013.
ويرجع هذا النمو السريع بالدرجة الأولى إلى ارتفاع أسعار البترول، التي قفزت من (62) دولارا للبرميل في 2009 إلى (105) دولارات للبرميل في 2013، وهي زيادة بنسبة (69%)، وهو ما يعادل نسبة ارتفاع حجم الناتج المحلي في الفترة نفسها.
وبالدرجة الثانية يعود ذلك النمو إلى زيادة إنتاج البترول بنسبة (19%) من (14.5) مليون برميل يوميا في 2009، إلى (17.2) مليون في 2013.
ولكن بسبب تأثر أسعار البترول بالتطورات الاقتصادية والسياسية الدولية، فمن الصعب الجزم باستمرار صعودها، فضلاً عن وجود عدد من التحديات التي تتعلق بهيكل وطبيعة الاقتصاد الخليجي، ويمكن أن تؤثرعلى النمو الاقتصادي في الفترة القادمة.
وبالنسبة للتحدي الأول المتعلق بتوقعات انخفاض دخل البترول، يتوقع الصندوق استمرار الركود الاقتصاد العالمي خلال 2014، حيث يتوقع أن تتفاقم أزمة منطقة اليورو، وأن يكون لذلك تأثير سلبي لا يقل عن 7% على معدل نمو الاقتصاد الخليجي، يمكن أن يصل إلى 20% إذا أضفنا استمرار تباطؤ النمو في الاقتصادات الصاعدة.
ويتضاعف تأثيره السلبي في حال ارتفاع إنتاج البترول الأميركي بنسبة أعلى من المتوقع حالياً.
ويعني ذلك إمكانية انخفاض الطلب على البترول وانخفاض أسعاره ودخل دول المجلس من تصديره، مما قد يؤدي إلى ضغوط لخفض الإنفاق الحكومي.
ولدى دول المجلس بالطبع احتياطات مالية كبيرة، تُقدر بنحو (2000) مليار دولار، مما يوفر لها إمكانية التعويض عن أي انخفاض غير متوقع في دخل النفط.
ولكن من المهم تذكر أن دول المجلس تختلف في حجم احتياطاتها المالية، وبالتالي قدرتها على تغطية انخفاض دخل البترول، وبالإضافة إلى ذلك، فإن زيادة إنتاجها النفطي ليس حلاً في ظروف انخفاض الطلب العالمي، لما لذلك من تأثير سلبي مضاعف على الأسعار، وإمكانية تعارضه مع التزامات (أوبك)، والحاجة إلى الحفاظ على معدل صحي بين حجم الإنتاج وحجم الاحتياطي من البترول.
وإذا استمرت الضغوط السلبية على أسعار النفط، كما يتوقع الصندوق، فإن استمرار السياسات المالية التوسعية الحالية قد يؤدي إلى تناقص الاحتياطات المالية، والتأثير سلباً على ثقة القطاع الخاص والاستثمار المحلي والأجنبي.
وهنا تكمن المعضلة، فإن استمر الإنفاق المرتفع فله تلك المردودات السلبية، وإن انخفض فسيؤثر سلباً على النمو الاقتصادي وعلى تنفيذ المشاريع التنموية، فضلاً عن مستوى رفاهية المواطن.
أما التحدي الثاني فيتعلق بتوقعات المواطنين التي ارتفعت مع ارتفاع دخل النفط خلال السنوات الأربع الماضية، مما أدى إلى ارتفاع الإنفاق الحكومي بشكل قد لا يمكن الاستمرار فيه إن انخفض دخل النفط كثيراً خلال 2014.
أما التحدي الثالث فهو التأثير السلبي لنمو القطاع الحكومي على المحاولات القائمة لزيادة توظيف المواطنين في القطاع الخاص، فكلما زادت فرص التوظيف في القطاع العام، وازدادت عوامل الجذب فيه، انخفضت جاذبية القطاع الخاص للمواطنين، ما لم تُتّخذ إجراءت فعالة لتجسير الفجوة بين القطاعين وتحسين ظروف العمل في القطاع الخاص، الذي أصبح منذ بعض الوقت مدمناً على العمالة الأجنبية الرخيصة.
ومن ذلك وصلنا إلى نتيجة غير مسبوقة في التاريخ الاقتصادي، وهي تزامن النمو المتسارع مع ارتفاع معدلات بطالة المواطنين وانخفاض معدلات الأجور. فمع وجود برامج لتوطين الوظائف في جميع دول المجلس، إلا أن نتائجها الملموسة ربما تستغرق بعض الوقت، وذلك لعدة أسباب.
فمعدلات الأجور في القطاع الخاص لا تجذب المواطنين، خاصة أنها في تناقص مستمر بسبب انخفاض الأجور في دول الجوار، ووجود مخزون لا ينفد من العمالة المستعدة للقدوم لدول المجلس.
ومن ناحية أخرى فإن مستويات مخرجات التعليم الجامعي لم تواكب تماماً الاحتياجات الجديدة لسوق العمل، مما أدى إلى تركز البطالة بين خريجي الجامعات بسبب افتقارهم للمهارات المطلوبة وعدم استعداد قطاع الأعمال لتدريبهم.
وبالمثل، فإن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لم تستفد مثل المؤسسات الكبيرة من النمو الاقتصادي.
فتجد دول المجلس بصفة عامة تتبوأ أعلى المراتب في مؤشرات التنافسية العالمية وسهولة الاستثمار فيها، وهو ما يفسر ارتفاع معدلات الاستثمار المحلي والأجنبي.
ولكن ذلك لا يشمل بالدرجة نفسها المؤسساتِ الصغيرةَ والمتوسطةَ.
ومردُّ ذلك إلى انخفاض معدلات الدعم الإداري والفني المتوفرة لها، وبشكل أساسي اعتمادها على الموارد المالية الذاتية بسبب محدودية فرص التمويل من السوق المالية والبنوك، حيث تفضل البنوك تمويل المؤسسات الكبيرة رغبة في تخفيض تعرضها للمخاطر.
وفي الاقتصادات الأخرى، توفر المؤسسات الصغيرة والمتوسطة أكبر حصة من الوظائف للمواطنين، ولكن في دول المجلس يسيطر عليها الوافدون بشكل شبه كامل، مما يُضعف دورها في تخفيض البطالة.
وإن كنتَ ترى أن هذه التوقعات كثيرة التشاؤم، فتلك طبيعة علم الاقتصاد وخبرائه.
ولكن من الحكمة الاستماع إلى نصحهم، خشية أن تتحقق توقعاتهم لو أهملناها.
والأولوية الرئيسة التي ينصحون بها هي تطوير قوة العمل الوطنية، كماً ونوعاً وكيفاً، وتطوير روح المبادرة الاقتصادية في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتشجعيها مالياً وإدارياً وفنياً لتوظيف وتدريب المواطنين، وبذلك سيستطيع الاقتصاد الخليجي مواجهة تحدي انخفاض دخل البترول، والذي إن لم يحدث في عام 2014، كما يتوقع صندوق النقد الدولي، فقد يحدث في السنوات التي تليها، ولكنه آتٍ لا محالة.
نقلا عن جريدة الوطن