شرحنا في المقال السابق بعنوان (البرازيل تبدع وتسحق منافسيها...في صناعة الطائرات) كيف تمكنت البرازيل من تصنيع الطائرات و اختراق هذا المجال شبه المحتكر والدور الذي لعبته الحكومة في ذلك. ولكن من سيشتري هذه الطائرات خارج البرازيل؟ على الرغم من أن طائرة امبراير الرئيسة (بانديارينتي) كانت تتميز باستهلاكها المنخفض للوقود وأدائها القوي وسهولة تشغيلها وصيانتها إلا أن ارتباطها ونشأتها في البرازيل قد يحد كثيرا من قدرتها علي البيع خارج الديار.
سيطرت امبراير علي السوق المحلي بعد ستة سنوات من إنشائها وبدأت التفكير في تصدير طائراتها. ولكن....من يريد ان يشتري طائرة من البرازيل؟؟
في التسويق لا يهم ما تملك, مايهم هو ما يعتقده الناس عنك.
هذا الانطباع – customer perception – يتشكل عن طريق عدة عوامل قد لا تتعلق بالضرورة بالمنتج نفسه.
ينقسم أي منتج إلى منتج ملموس وهو في هذة الحالة الطائرة نفسها ومنتج غير ملموس وهو عبارة عن عدة عوامل قد تزيد من جاذبية المنتج الملموس ومن أهم هذه العوامل اسم الشركة والدولة التي نشأت فيها.
إذا اشتريت سيارة مرسيدس فأنت تشتري وسيلة مواصلات كمنتج ملموس وتشتري برستيج اجتماعي وتشتري منتج من ألمانيا, وهو بلد مشهور بالهندسة المتقدمة والجودة العالية, وهنا مربط الفرس.
نحن نثق في جودة المنتج اذا كان من المانيا, ونعرف أنه يجب أن يكون أنيق لإنه من إيطاليا, وفخم لإنه من فرنسا!! أي أن لكل دولة صورة نمطية أو - Brand – تشكل مع السنين.
لا يعني هذا أن كل شيْء يأتي من هذه البلدان يعكس فعلياً الصور المتشكلة في أذهاننا ولكن هذه الانطباعات تجعل من الصعوبة بمكان أن تأتي دولة مثل البرازيل وتقنع الناس بأنها تملك تكنلوجيا متقدمة لان البرازيل هي بلد نامي وحين يُذكر اسمها تأتي صور نمطية في مخيلة الناس كالسامبا وكرة القدم.
لو كنت رأيس شركة طيران وتريد طلب اسطول جديد, هل تتجرأ وتوافق على شراء طائرات من بلد نامي مشهور بالقهوه وكره القدم أم (تضع بينك وبين النار مطوع) كما يقول المثل الشعبي الخطير وتشتري طائرات مضمونة لها تاريخ عريق ومصدرها الولايات المتحدة؟ حتى لو كنت تثق في جودة هذا المنتج الجديد, الكثير سيتجنب شراء هذة الطائرات الجديدة لانها لو فشلت فالمسؤولية ستلقى على المدير الذي اشترى طائرة من بلد (وش عرفهم في الطيارات!).
أدركت امبراير هذا العائق فوضعت استراتيجة متوازنة لتصدير طائراتها تعتمد على استهداف اسواق اقل تقدما كالاوروجواي وتشيلي.
قد يكون هذا منطقياً ومتوقعاً بحكم القرب الجغرافي ولكن امبراير اثبتت انها تعمل وفق استراتيجية واضحة بدخولها عام 1976 في بلد افريقي صغير هو توجو. كان معظم كباتنة الطائرات في توجو طيارين فرنسيين متقاعدين نقلو اعجابهم بهذة الطائرات لزملائهم السابقين والشركات الفرنسية.
كان لهذة الدعاية المجانية اثر كبير في تسهيل دخول امبراير للسوق الفرنسية والاوروبيه ففي عام 1977 شاركت امبراير للمرة الاولى في معرض باريس الدولي للطائرات وابرمت شراكات استراتيجة مهمة مع شركاء أُروبيين لبيع وصيانة طائراتها في أُوروبا.
بعد هذا المشوار المدروس تمكنت امبراير للمرة الأولى من دخول السوق الأمريكي الكبير في عام 1978 وبشكل تدريجي سيطرت عليه في فئتها بعد معارك شرسة مع منافسيها الأقوياء وصلت للكونجرس والجهات التنظيمية وتخللها الكثير من الصعوبات.
قصة امبراير بجميع تحدياتها وجوانبها تقدم دروساً مهمة لعل من ابرزها مايلي :1) أن صناعة شركات عملاقة في مجالات تعتمد علي التكنلوجيا ليست حكراً على الدول المتقدمة ولكنها تتطلب أن تهيء بيئة مختلفة بعيدة عن النماذج التي ثبث فشلها 2) الدول تتنافس مع بعضها البعض ولكل بلد صور نمطية معينة قد تكون إما عائقاً أو عاملا مساعداً في تسويق منتج ما 3) الجميع يقدم الدعم لشركاته حتى تصل لقدرة تنافسية عالمية ولكن الأساليب والأدوات تختلفان.
وهذ النقطة مهمة جدا لتقليل حدة النقد ولفهم أهمية الدعم الذي تقدمه المملكة لصناعة البتروكيماويات المحلية. 4) التركيز على المنتج الملوس وكفاءته ليس كافياً لإقناع المستهلك وتغيير أحكامه المسبقة. 5) النجاح المستدام يتطلب توثيق الدروس المستفادة من الفشل و النجاح على السواء والنظر بشكل مستمر لما يقوم به الاخرين.
مقال مميز اخي عبدالله
مقال رائع شكرا لك