من حيث المبدأ لا بد من امتلاك رؤية طموحة وهادفة، علما بأن كل رؤية تنطوي على تحديات وفرص، وإذا نظرنا إلى أي رؤية من منظور أنها مجرد مجموعة من التحديات فإننا سنفشل، لكن إذا نظرنا إلى الفرص التي تختزنها الرؤى فإننا سنكون في وضع أفضل للتغلب على التحديات المتزايدة التي نواجهها الآن أو في المستقبل القريب والبعيد معا، وفي الحقيقة تزداد تحديات السعودية تعقيدا وتسارعا، ومن أهم هذه التحديات هي التعليم وسوق العمل.
وجاءات الميزانية الحكومية لعام 2013 تحفيزية وضخمة وتضمنت مستوى قياسيا، وتلعب بلا شك دورا رئيسيا في دفع عملية النمو الاقتصادي في البلاد, بمصروفات تقديرية تبلغ 820 مليار ريال مسجلة أعلى نمو سنوي في الإنفاق التقديري منذ عام 2006، وهذه ثاني ميزانية على التوالي منذ عام 2008 تتضمن تقديراتها تسجيل فائض.
وتركزت هذه الميزانية على قطاعات كثيرة من أهمها عصب الاقتصاد وهو التعليم مما يؤكد عزم الحكومة الاستمرار في دعم أهم عنصر في أي اقتصاد وهو التعليم، ويعد قطاع التعليم مع الرعاية الصحية أهم بنود الإنفاق الحكومي في الميزانية حيث شكلت مخصصاتها 37% من إجمالي الإنفاق.
الإنفاق على التعليم في المملكة تجاوز معدل الإنفاق في منطقة الشرق الأوسط
ويشكل النظام التعليمي محورا أساسيا من محاور التنمية في أي اقتصاد ويرتبط ارتباط مباشر باحتياجات المجتمع وتطوره في مجالات الإنتاجية والمعرفة، لذلك حظي قطاع التعليم بالنصيب الأكبر من مخصصات الميزانية التي تم الكشف عنها والتي شكلت مصروفاته 25% من إجمالي الإنفاق، حيث وصلت المخصصات إلى 204 مليار ريال بارتفاع بحوالي 21% عن العام السابق وهي أكبر زيادة منذ عام 2007.
وتوازي حجم مخصصات التعليم خلال السنوات الست الماضية أكثر من الميزانية العامة للدولة في عام 2013 التي تعتبر أكبر ميزانية في تاريخ السعودية، إلا أن العوائد ضئيلة ورديئة جدا ولا تناسب هذه المخصصات الضخمة.
وهذه المبالغ ستستخدم لتغطية أعمال التشييد الخاصة ببناء 539 مدرسة جديدة و1,900 مدرسة قائمة (لا زالت قيد الإنشاء) وتجديد 2,000 مدرسة.
وشهدت الأعوام الأربعة الماضية تمويل أكثر من 3,091 مدرسة جديدة أي بمعدل يزيد عن مدرستين كل يوم، وكذلك سيتم بناء أكثر من 15 كلية جديدة، كما سيتواصل العمل في بناء مرافق الجامعات التي فتحت مؤخرا.
كما تم تخصيص 13.4 مليار ريال لمشروع الجامعة الإلكترونية ليصل حجم المخصصات لهذه الجامعة 38.4 مليار ريال منذ العام الماضي، وتم تخصيص 21.6 مليار ريال لتغطية تكاليف أكثر من 120 ألف مبتعث، بالإضافة إلى 4.25 مليار ريال لبناء ثلاث مستشفيات جامعية، ولا يوجد هناك خطط لإنشاء جامعات جديدة.
ولقد تضاعف الإنفاق على التعليم أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الأخير ومرشح أن يرتفع ولكن بوتيرة نمو أقل حيث تم تخصيص مبالغ ضخمة في العشر سنوات الأخيرة اجتازت حاجز التريليون ريال (1.3 تريليون ريال) لبناء البنية التحتية لهذا القطاع.
وتجاوز الإنفاق على التعليم في المملكة والبالغ 7.3% من الناتج الإجمالي المحلي معدل الإنفاق على التعليم في منطقة الشرق الأوسط الذي يبلغ 3.8%، وكذلك المعدل العالمي للإنفاق على التعليم الذي يبلغ 4.4% وذلك حسب البيانات الأخيرة من البنك الدولي.
ويشكل الطلاب السعوديين لجميع مراحل التعليم العام والعالي حوالي 32% من إجمالي عدد السكان السعوديين، بينما يشكل تطوير نوعية التعليم في المملكة الموضوع الأكثر أهمية وتحديا خلال العقد الماضي والحالي، فهو مركز الثقل في العملية التعليمية والتربوية والعنصر الأساس في ضمان مخرجات تعليمية يمكن أن تسهم بفاعلية في التنمية.
مع كل هذه الإنفاقات الهائلة على التعليم كما ذكرت سابقا إلا أن المخرجات رديئة والنظام التعليمي ما زال يعاني من تدني الجودة، وحسب نتائج صادرة عن البرنامج الدولي لتقييم الطلبة (بيسا) والذي يعد جهدا تعاونيا للأعضاء المشاركين من منظمة بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بهدف قياس مدى نجاح الطلبة الذين بلغ سنهم 15 سنة ممن هم على وشك استكمال تعليمهم الإلزامي والاستعداد لمواجهة تحديات مجتمعاتهم اليومية فإن الإمارات تأتي في المرتبة 42 تليها الأردن 55 ثم تونس 56 ثم قطر 61 أما السعودية هي الدولة العربية ما قبل الأخيرة في امتحانات المقارنة الدولية للأداء في مجالي الرياضيات والعلوم.
ومن الواضح أن هذا التحصيل العلمي هو نتيجة للإعداد المعيب للشاب الناتج من مخرجات التعليم، وسوف يستلزم إصلاح سوق العمل إنشاء منظومة أمان اجتماعية لدعم المحتاجين، وكما ينبغي تأسيس أنظمة فعالة لدعم الأقل حظا في المجتمع.
وتفتقد المملكة إلى اخصائيين وفنيين وتقنيين أكفاء في المجالات العلمية، كالعلوم الهندسية وعلوم الحاسوب والطب وسواها، ستحتاج السعودية إلى سنوات كثيرة لكي تتمكن من تخريج ما يكفي من هذه الكفاءات الوطنية لتقليص حاجة اقتصاد البلاد من الكفاءات الأجنبية.
ويجب أن تواصل الحكومة دورها في تقديم الأشخاص المؤهلين من خلال التعليم العام والعالي والمهني، ولكن يجب ضرورة التركيز على نوعية التعليم وليس على الكم، كما يجب دعم التخصصات الفنية والمهنية على حساب التخصصات النظرية في الجامعات السعودية، هنا يجب تحذير القائمين على السياسة التعليمية في البلاد بضرورة إحداث تغيير جوهري في التعليم، وإلا فإن العواقب ستكون قاسية جدا في المستقبل القريب.
والأرقام في تخصص الهندسة وحدها مفجع، ففي السعودية ما يقارب من 175 ألف مهندس يعملون في مختلف القطاعات ويشكل السعوديون 12 في المئة فقط وهذا الأمر يجب أن يتغير في السنوات القليلة المقبلة.
ويتوقع أن يصل عدد المقبولين في كافة القطاعات التعليمية العالية إلى 376 ألف طالب سنويا إلى عام 2014 على أن يصل عدد الخريجين حوالى 318 ألف خريج سنويا إلى عام 2014، لذلك يجب الارتقاء بالاستفادة من الموارد البشرية المحلية إلى أكبر حد، والتركيز على سوق العمل.
وتعمل وزارة التعليم العالي على سد الفجوة القائمة في الكفاءات العلمية الوطنية، لكنها ستحتاج إلى سنوات عديدة لكي تتمكن من تخريج ما يكفي من هذه الكفاءات الوطنية لتقليص حاجة اقتصاد البلاد إلى الكفاءات الأجنبية.
كما يجب تقليص عدد الوافدين في المملكة الذين يشكلون 87% في القطاع الخاص ودعم إنشاء الشركات والمؤسسات المتوسطة والصغيرة والتوسع في نشاطاتها، ويوجد قطاعات في الاقتصاد السعودي تكاد تشهد عدم وجود مواطنين بالنسبة والتناسب مع الوافدين وهناك قطاعات من الضروري وجود الوافدين بها، وهناك قطاعات من الممكن استبدال مواطنين بالوافدين بشكل تدريجي، وأهم هذه القطاعات قطاع التجارة بالجملة والتجزئة.
فطبقا لإحصاءات القوى العاملة في مصلحة الإحصاءات العامة بلغت نسبة السعودة لقطاع التجارة بالجملة والتجزئة 17.3 في المئة، بينما نجد أن 82.7 في المئة من هذه الوظائف مشغولة بالوافدين، وإذا تحققت نسبة السعودة في هذا قطاع 60 في المئة تدريجيا على مدى السنوات الخمس المقبلة، فإنه سيوفر أكثر من 700 ألف فرصة وظيفة للمواطنين وكما أنها ستوفر مجالا خصبا للتدريب والتطوير مما يساعد في سرعة دوران الأموال الاستثمارية صغيرة الحجم.
هناك حاجة لتوجيه كافة النظام الاقتصادي السعودي نحو تقديم المزيد من الدعم للمنشآت الصغيرة والمتوسطة الحجم، كما يجب أن يكون هناك تعريف وتثقيف لمثل هذه المنشآت من مرحلة الثانوية والمتوسطة وكيفية إنشاء شركات تجارية صغيرة ويجب العمل على إنشاء هيئة حكومية عليا للمنشآت الصغيرة والمتوسطة كما هو الحال في الاقتصادات المتقدمة مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا واليابان وألمانيا لتقوم بتقديم الخدمات التوعوية اللازمة للأشخاص الراغبين في فتح شركات تجارية صغيرة.
وحاليا هناك عدم تكافؤ بين توظيف الوافدين والمواطنين ويعد أحد أكبر التحديات التي تواجه سوق العمل والاقتصاد المحلي بشكل عام حيث أن نسبة الوافدين إلى المواطنين أكثر بقليل من 33 في المئة، طبقا للبيانات السكانية النهائية، ونلاحظ توفير القطاع الخاص المحلي للكثير من فرص العمل خلال سنوات الازدهار الاقتصادي، ولكن معظم هذه الوظائف ذهبت إلى الأجانب بدلا من المواطنين.
ومن الضرورة القصوى استحداث 2.1 مليون فرصة عمل للشباب السعودي حتى عام 2017، خصوصا أن ثلثي المواطنين لا تتجاوز أعمارهم ال30 عاما، و47 في المئة منهم دون سن العشرين، مما يجعل نسب البطالة بين الشباب أهم بكثير من معدل البطالة العامة، طبقا لأرقام العاطلين عن العمل في مسح القوى العاملة، ووصلت نسبة البطالة بين السعوديين الذين تقل أعمارهم عن ثلاثين عاما إلى 28.9 في المئة، بينما بلغت النسبة 40.2 في المئة للفئة العمرية التي تتراوح أعمارها بين عشرين عاما وأربعة وعشرين عاما.
وهذه الأرقام والبيانات تجعل هذه المشكلة حادة ولا بد من إيجاد حلول لها، حيث تظهر بيانات منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة أن السعودية تحتل المرتبة الثانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد العراق، على صعيد أعلى نسب البطالة بين الشباب، وهو ما يعني أن نسبة البطالة بين الشباب السعوديين أعلى منها في تونس والأردن ومصر ولبنان.
بينما نسبة السعوديات العاملات إلى إجمالي العاملين في السعودية بلغ نحو 10.2 في المئة، وهي النسبة الأدنى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط، حيث تجاوزت هذه النسبة العشرين إلى الثلاثين في المئة في الكويت، وقطر، وسوريا، والإمارات، طبقا لبيانات الأمم المتحدة، وطبقا للإحصاءات السعودية فإن أكثر من 78 في المئة من السعوديات العاطلات يحملن شهادات جامعية.
أما النسبة المنخفضة لمشاركة المرأة السعودية في الاقتصاد، فهي مسألة قيم وعادات اجتماعية ولا علاقة لها بسياسات العمل، وقد تُقبل المرأة السعودية على العمل عندما تصبح الأجور مرتفعة -هذا ما حدث في أوروبا والولايات المتحدة- فقبل الحرب العالمية الثانية كانت النساء تلتزمن بيوتهن، لكن بسبب ندرة العمالة بعد الحرب؛ بدأت الأجور في الارتفاع وأرادت الأسر وأرباب العمل أن تعمل المرأة وهذا ما أرادته المرأة نفسها أيضا.
عندما يدفع القطاع الخاص أجورا زهيدة لن يختار السعوديون العمل لديه، لذا سيكون هناك القليل من التدريب، وعلى سبيل المقارنة تبلغ نسبة تدريب الشركات المحلية في السعودية لمواطنيها نحو 25 في المئة، بينما تبلغ 57 في المئة في دول شرق آسيا و40 في المئة في دول أوروبا الشرقية و53 في المئة في دول أمريكا اللاتينية و26 في المئة في الدول الإفريقية.
وينبغي للقطاع العام ألا يكون الملاذ الأخير للتوظيف؛ لأن التمايز بين القطاعين العام والخاص لا يحفز الشاب على الاستثمار في التعلم.
في الحقيقة باستطاعة نظام التعليم أن يحقق نتائج أفضل لكن المشكلة ليست في نوعية التعليم، وإنما في طلب العلم من جانب الباحثين عن فرص عمل، لذا ينبغي أن يتمثل الهدف البعيد المدى في تطوير نظام تعليمي متطور وسوق عمل قادرة على الاعتماد على رصيد بشري وطني يتمتع بمهارات عالية، لكن تحقيق هذا الهدف يتطلب تحولا جوهريا في ثقافة التعليم والعمل والتأهيل المهني على مستوى المجتمع السعودي ككل، لذا لا بد من إعادة توجيه الاستثمارات واتباع سياسات موجهة غايتها إنتاج سلع ذات قيمة مضافة عالية، لإيجاد دينامية قادرة على موازنة الأجور المرتفعة التي تناسب السعوديين.
وينبغي للحكومة والقطاع الخاص أن يتعاونا لوضع استراتيجية للنمو لأن الحكومة لا تستطيع إنجاز هذه الاستراتيجية بمفردها، وكذلك هو الحال بالنسبة للقطاع الخاص، وينبغي لنموذج التنمية أن يكون أكثر توجيها، وتتمتع السعودية بما يكفي من الاستقلالية للقيام بدور المحفز و"عامل التغيير".
وهناك الكثير من الأمثلة على الدول التي تقود نماذج نموها الاقتصادي بدعم من القطاع الخاص، مثل حالة كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان، لكن تبني أو استنساخ أي نموذج جاهز ليس بالعمل الحكيم إطلاقا لأن كل اقتصاد له خصوصيته الذاتية.
أخيرا، نؤكد مرة أخرى عدم وجود أي نماذج مثالية، الأمر الذي يفتح الباب أمام ارتكاب أخطاء، وفي المقابل؛ لا بد من امتلاك رؤية ودافع ومرونة لتغيير المسارات عند اللزوم.