هل الأموال المروحية تستطيع تحفيز النمو الاقتصادي؟

04/06/2013 0
د. علي بن جاسم الصادق

تمهيد:

على الرغم من كافة السياسات الاقتصادية التي اتبعتها الدول الصناعية لتحفيز النمو الاقتصادي، أظهرت البيانات الاقتصادية الأخيرة إلى أن خطر الركود الاقتصادي ما زال قائماً.

تبقي المشكلة الأساس هو كيف يمكن أن نحفز الطلب الكلي (الإنفاق والاستثمار والتبادل التجاري الدولي) لتحقيق النمو الاقتصادي في ظل الوضع الحالي القائم؟ بمعنى آخر، عندما يكون سعر الفائدة الاسمي عند مستوى الصفر، مع مستويات كبيرة من الديون الحكومية، فما هي السياسات التي يمكن للحكومة من إتباعها لتحفيز الطلب الكلي للخروج من حالة الركود الاقتصادي هذه؟ يحاول هذا المقال مناقشة أهم الحلول المطروحة في الأدبيات الاقتصادية في الفترة الحالية.

مقدمة:

عندما يعمل الاقتصاد عند مستوى أقل من التوظف الكامل (Full Employment) (بسبب وجود خلل في الطلب الكلي، تستطيع الحكومة من تصحيح هذا الخلل من خلال ثلاث سياسات اقتصادية مختلفة؛ سياسة نقدية (لتحفيز الإنفاق والاستثمار الخاص)، وسياسة مالية (للتأثير على معدل الإنفاق والاستثمار الحكومي، وسياسة سعر الصرف (لتحسين حجم التبادل التجاري الدولي). 

يعد سعر الفائدة الحقيقي (سعر الفائدة الاسمي ناقصاً معدل التضخم) أحد أهم العوامل التي تؤثر على قرارات الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري. فكلما كان سعر الفائدة الحقيقي منخفضاً، انخفضت تكلفة الاقتراض بشكل يجعل تكلفة الانتاج منخفضة مما يشجع الوحدات الاقتصادية على  الاستثمار.

كما يشجع أيضاً على زيادة معدل الاستهلاك نظراً لانخفاض العائد على المدخرات. لذا يستطيع البنك المركزي من خلال سياسته النقدية على تحفيز الطلب الكلي عن طريق خفض سعر الفائدة الاسمي في الأجل القصير، والذي بدوره سيؤثر على سعر الفائدة الحقيقي.

ولكن عندما يصل سعر الفائدة الاسمي لمستوى الصفر (كما هو الحال في الفترة الحالية)، نصل لما يُعرف بـ مصيدة السيولة (Liquidity Trap) وتفقد السياسة النقدية التقليدية فعاليتها، مما يجعل البنك المركزي يبحث عن أدوات مالية غير تقليدية مثل سياسات التيسير الكمي (Quantitative Easing)  لتحفيز الاقتصاد القومي. 

مع وصول سعر الفائدة الاسمي للصفر، فأن سعر الفائدة الحقيقي قد يكون مرتفع خصوصاً إذا كان معدل التضخم منخفض، وبالتالي لضمان بقاء سعر الفائدة الحقيقي منخفض في الأجل الطويل، تعمل سياسة التيسير الكمي على خفض العائد (the Yield) على الأوراق المالية طويلة الأجل أو رفع معدل التضخم.

وبما أن هناك علاقة عكسية بين سعر الأوراق المالية ومعدل العائد عليها يقوم البنك المركزي بطباعة نقود إضافية لشراء نوع معين من الأوراق المالية طويلة الأجل— ومع افتراض أن البائعين (المستثمرين) سيقومون بشراء أوراق مالية أخرى، ومع استمرار عملية البيع والشراء— سينخفض سعر الفائدة الحقيقي في الأجل الطويل.

أيضاً من خلال هذه العملية فأن عرض النقود في الاقتصاد سيرتفع مما يعمل على رفع السيولة في القطاع المالي مما يشجع البنوك على اقراض القطاع الخاص لتصريف هذه السيولة.

وعلى الرغم من تعافي معدلات النمو في اقتصاديات الدول التي طبقت هذا النوع من السياسات (أمريكا وبريطانيا واليابان) في الأجل القصير، سرعان ما تراجعت هذه المعدلات بسبب عدم نجاج سياسة التيسير الكمي في زيادة معدلات الانفاق والاستثمار.

قد يكون السبب وراء ذلك — في اعتقادي— أن هذه السياسة تعمل على خفض سعر الفائدة في الأجل الطويل وزيادة السيولة في القطاع المالي، إلا إنها لا تعنى بالضرورة قد تعمل على تحفيز الطلب الكلي.

فعلى سبيل المثال قد يقوم أحد البائعين باستثمار أمواله التي حصل عليها من قيمة الأوراق المالية المشتراة من قبل البنك المركزي في الخارج أو إحجام البنوك عن الاقراض بسبب درجة عدم اليقين في بيئة الأعمال.   

مع عدم مقدرة السياسة النقدية التقليدية وغير التقليدية على تقليص فجوة الناتج (Output Gap) يذهب البعض إلى ضرورة قيام الحكومات بنهج سياسة مالية توسعية تتمثل في زيادة الإنفاق الحكومي أو خفض معدل الضرائب أو الاثنين معاً.

فعندما تقوم الحكومة بزيادة الانفاق الاستهلاكي أو الاستثماري فأنها تقوم  بتحفيز النمو الاقتصادي بطريق مباشر من خلال زيادة أحد مكونات الطلب الكلي، وكذلك عن طريق غير مباشر من خلال التأثير الإيجابي على المكونات الأخرى للطلب الكلي (الإنفاق الاستهلاكي في حالة زيادة الرواتب والأجور، ورفع معدل الاستثمار الخاص في حالة تحسين إنتاجية القطاع الخاص من خلال الإنفاق على البنية التحتية).  

ولكن تعتمد فعالية السياسة المالية في تقليص فجوة الناتج على عدة عوامل أهمها:

أولاً: نسبة التغيير في الناتج القومي إلى التغيير في الإنفاق الحكومي، أو ما يسمى بالمضاعف المالي (Fiscal Multiplier).

فكلما كان هذا المضاعف أقل من واحد، فأن كل دولار تنفقه الحكومة يرتفع الناتج القومي بأقل من دولار.

 ثانياً: طريقة تمويل الإنفاق الحكومى ومدى تأثيرها على باقي مكونات الاقتصاد القومي. فقد يحدث أن تزاحم الحكومة القطاع الخاص عندما تقترض من البنوك المحلية لتمويل نفقاتها.

ثالثاً: مستوى الدين العام للحكومة كنسبة من إجمالي الناتج المحلي. عندما يصل مستوى الدين العام للحكومة إلى مستويات مرتفعة جداً (بعض الدراسات حددت هذه المستوى بحدود 90% من الناتج المحلي الإجمالي)، فأن أي زيادة في الإنفاق الحكومي لن يصاحبها أي زيادة في معدل النمو وذلك لأن دافعى الضرائب سيتوقعون أن الحكومة سترفع معدلات الضرائب في المستقبل لسداد هذه الديون، مما يدفعهم لزيادة الادخار في الفترة الحاليةRicardo) (Equivalence.

كذلك مع ارتفاع الدين العام للحكومة إلى مستويات قصوى، ترتفع أيضاً فاتورة خدمة الدين (الفوائد التي تدفعها على القروض)، وبالتالي استقطاع جزء كبير من ميزانية الحكومة لخدمة الديون.

في الفترة الراهنة وبسبب الازمة المالية العالمية، تخطت معدلات الديون العامة للحكومات الحدود القصوى مما يعنى أي زيادة في الإنفاق الحكومي قد يؤثر على مدى استقرار مسار الدين العام (Debt Sustainability).

هذا يعنى أما أن المقرضين سيحجمون عن اقراض الحكومة (هذا ما حدث لليونان) أو الاقتراض بأسعار فائدة مرتفعة جداً.  

أما في حالة سياسة سعر الصرف، فتعمد الدولة إلى خفض سعر صرف عملتها المحلية مقابل العملات العالمية الأخرى من أجل تحسين القدرة التنافسية لمنتجاتها في الأسواق العالمية مما يساعد على زيادة الإنتاج المحلي. فعند قيام البنك المركزي بزيادة طلبه على العملات الأجنبية في سوق العملات فأن عرض النقود من العملة المحلية يرتفع مما يؤثر على قيمتها بالانخفاض.

تعتمد فعالية أو نجاح هذه السياسة على فرضية بقاء أسعار صرف العملات الرئيسية الأخرى ثابت أمام نظرائها.

بمعنى آخر نظراً لأن سعر صرف العملة لابد أن يكون مقابل عملات أخرى، فإنه فى حالة انخفاض سعر صرف العملة المحلية (الدولار مثلاً) مقابل عملة أخرى (اليورو)، فهذا يعنى أن سعر صرف اليورو قد ارتفع مقابل الدولار، أي أنه هناك رابح وأخر خاسر.

يترتب على هذه المعادلة صعوبة تنفيذ هذا النوع من السياسات خصوصاً في الفترة الحالية وذلك في حالة قيام بنك مركزي ما بشراء عملات أجنبية بهدف خفض سعر صرف عملته المحلية قد يجعل البنوك المركزية في الدول الأخرى تحاول خفض سعر صرف عملاتها ايضاً.

أي أننا قد نشهد حرب عملات بين الدول .(Currency War) 

هل هناك سياسة أخرى؟

يطرح بعض الاقتصاديين (خصوصاً في أوروبا) مرة أخرى فرضية "الأموال المروحية" (Helicopter Money)  للاقتصادي ملتون فريمان (1969)، كأحد الحلول أو ربما الوحيد للخروج من هذا الركود الاقتصادي.

تقوم فكرة هذه الفرضية على قيام البنك المركزي بطباعة نقود إضافية وحملها في طائرة هيلكوبتر وإلقائها على الأفراد من السماء، والذين بدورهم سيجمعون هذه النقود الورقية وأنفاقها مما ينعش الاقتصاد الكلي.

في الواقع العملي، يقوم البنك المركزي بطباعة نقود ورقية إضافية وإيداعها في حساب وزارة المالية والتي تقوم بتحويل هذه الأموال بطريقة ما إلى الأفراد (قامت مصلحة الضرائب في أستراليا عام 2009م بإرسال شيكات نقدية لأغلب دافعى الضرائب كمكافئة نقدية). 

 تشبه هذه العملية كثيراً كلاً من سياسة التيسير الكمي والسياسة المالية التوسعية. فهي تشبه التيسير الكمي في أنها تهدف إلى زيادة عرض النقود ورفع معدل التضخم، وتشبه السياسة المالية في أنها ترفع من الإنفاق الحكومي.

ولكن الفارق الجوهرى الذي يميز هذه الفرضية هو عدم وجود الأوراق المالية في العملية.  ففى حالة التيسير الكمي يقوم البنك المركزي بطباعة النقود لشراء أوراق المالية من السوق (من البنوك مثلاً)، وفي السياسة المالية يتم شراء سندات حكومية جديدة  لتمويل العجز المالي والتي ترفع من مستوى الدين العام.

بعبارة آخرى، في حالة التيسير الكمي والسياسة المالية يستطيع البنك المركزي في المستقبل من إعادة بيع هذه الأوراق المالية في الأسواق مما قد يؤثر سلبا على معدل النمو الاقتصادي.

أما في حالة الأموال المروحية، فإن الأموال المطبوعة تذهب مباشر إلى الأفراد وهي غير قابلة للإعادة Irredeemable)). 

المشكلة الأساس التي قد تحد من فعالية هذه الفرضية هي مدى استجابة الأفراد لهذه الإجراء من حيث زيادة الأنفاق الاستهلاكي أو الاستثماري.

ومع افتراض ان الوحدات الاقتصادية  زادت من إنفاقها فأن هناك مخاطر حدوث ضغوط تضخمية كبيرة (Hyperinflation) لا يمكن التحكم فيها.

كما قد يدخل الاقتصاد في مرحلة حرجة بمشاكل مختلفة أهمها الهيمنة المالية (Fiscal Dominance) وانخفاض القيمة الشرائية للعملة المحلية.