كان العالم قد تنفس الصعداء منذ أسابيع بعد أن توصل الرئيس أوباما ومعارضوه من الجمهوريين إلى اتفاق بشأن خفض الميزانية الأمريكية وهو الاتفاق الذي قبله أوباما على مضض وقال: انه سيصيب الأداء الحكومي وفئات من المجتمع بأضرار هائلة. المهم أننا تعرفنا لأول مرة خلال تلك المعركة وقبل الوصول إلى اتفاق على مفهوم جديد هو «الهاوية المالية» والذي ظل يتردد على مدار اشهر في أمريكا ويقصد به توقف كافة أعمال الإدارة في أمريكا بسبب العجز عن سداد المرتبات وتمويل الإنفاق التشغيلي لرفض الجمهوريين السماح بزيادة سقف الدين الحكومي بما يمكن الإدارة من الاقتراض لسد العجز في الموازنة وتمويل تلك الاحتياجات.
لكن الغريب انه لا الميديا الأمريكية نفسها ولا الميديا الإقليمية أو العالمية اهتمت برصد الحياة في عالم ما بعد التوافق على خفض الموازنة هذا الذي اجبر عليه أوباما.
تشاء الصدف أن أتواجد في أمريكا في الفترة من 18 إلى 26 أبريل وأن اكون شاهدا ومعي زملائي من الصحفيين والإعلاميين المصريين على بعض مشاهد من هذا العالم.
كان أول ما لفت نظر الجميع بل وأرهق عقولهم وبالطبع أقدامهم هو الوقوف في طوابير غير معقولة ولا مسبوقة في مطار جون كنيدي في أمريكا للحصول على تأشيرة الدخول. ساعتان ونصف الساعة من التحرك البطيء لطابور بدا بلا نهاية وحين سألنا قيل لنا أن السبب هو التوجه إلى خفض الميزانية فقد تم تسريح بعض العاملين بالجوازات ولهذا حدث هذا الزحام.
مشهد لا يمكن وصفه إلا بالحماقة فالمرء يفهم أن من المهم للعالم كله وليس لأمريكا فحسب أن تعالج أمريكا عجز الموازنة حتى لا تظل تعيش عالة على غيرها عبر طبع دولارات لكن لا يمكن فهم أن يتم تسريح أيد عاملة في مكان مثل الجوازات معروف أن من يعمل فيه يظل يؤدي عملا طوال ساعات وبلا راحة أي انه لا بطالة مقنعة في هذا المكان حتى يتم تسريح بعض الأيدي العاملة فضلا عن أن سرعة تخليص إجراءات دخول الراكب لأي بلد مؤشر مهم للزائر أو السائح أو البزنس مان على حال البلد، كما انه موضوع مريح نفسيا وعكسه يسبب توترا سيعلق في الذاكرة لأمد طويل. (بالمناسبة بعد العودة عبرنا جوازات مطار القاهرة في اقل من ست دقائق).
كان المشهد الثاني في وزارة الخارجية الأمريكية فقد حضرنا أولا بعد نصف ساعة من انتظار المؤتمر الصحفي اليومي للمتحدث باسم الخارجية ثم انتقلنا إلى لقاءات مع مساعدي وزير الخارجية ولفت نظرنا في وقت واحد انه لا شاي ولا قهوة ولا مياه خلافا لما جرت عليه العادة في زيارة كل عام وكان التعليق أيضا عفوا فإن خفض الميزانية اثر على الانفاق بصوره المختلفة.
والعجيب أن ثقافة «كت فروم ذا بدجت» هذه تفشت بسبب وبلا سبب في كل المؤسسات العامة والخاصة وبل والدولية في أمريكا فائضا في البنك الدولي لم يكن هناك شاي ولا قهوة وفي صندوق النقد قدم لنا المصري/ الشرقاوي الدكتور عبدالشكور شعلان ممثل المجموعة العربية القهوة مع بضع الكعك. جيد. لكن بالعودة وراء فقد كان الدكتور شعلان يعزم الوفد الإعلامي المصري على الغداء كل عام وتغير الأمر هذه السنة.
يعرف القارئ بالتأكيد ما أرمي إليه فليست القضية شاي أو قهوة. الغريب أن الفندق الذي اعتدنا النزول فيه في منطقة روزلن بوسط واشنطن اتخذ هو الآخر تدابير عجيبة لخفض النفقات منها مثلا عدم تقديم عصير البرتقال مع الإفطار وخفض اجر ساعة العمل بنحو 40% مع حيلة يفترض انه يتم تعويض النقص بمقتضاها وهي اشتراط أن يشكر النزلاء عاملا معينا أو القائم بالخدمة حتى يتم تقديم مكافأة له تعوضه.
في المطاعم الكبيرة لاحظنا أيضا نزوعا إلى توفير في عدد العاملين بحيث إن العاملة الواحدة تتلقى أوامر الشراء وتدفع بها إلى طاقم المطبخ للتجهيز ثم تستقبلها وتجمعها في علبة ثم تجري لالتقاط البطاطس من مصفاة المقلي وتضيفها للعلب وتجري مرة أخرى لتحضير القهوة لمن طلبها مع الوجبة. إرهاق يحق ليساري معه أن يقول ما كل هذا الاستغلال الرأسمالي للأيدي العاملة.
لكن الحق يقال أيضا فإن الالتزام بواجبات العمل هو طريق التقدم ولا شيء غيره واليساري نفسه يجب أن يكون قدوة في الالتزام بمتطلبات العمل في أي موفع يوجد به بل والإبداع فيه لكن الخناقة الحقيقية هي حول نصيب قوة العمل من العوائد ونصيب الرأسمال. وبصفة شخصية فإنه لم يحدث مرة أن قبلت التهاون في واجب العمل في أي موقع أو من أي شخص ولا أحبذ التهاون في هذا وأقول دوما أن الدفاع عن الطبقة العاملة هو دفاع ضد التوحش والاستغلال ودفاع عن العدالة التي تقرها كل الشرائع السماوية والمواثيق الأرضية ولم يكن ولن يكون دفاعا عن تكاسل أو إهمال.
في الصين كنت قد رأيت كم أن استغلال الدولة للأيدي العاملة مروع في مصانعها وشركاتها أو في الشركات الخاصة برعاية الدولة أيضا وقد قلت وقت زيارتها انه لا تقدم بلا ثمن وأننا في عالمنا العربي لا نريد أن ندفع هذا الثمن فالأيدي العاملة لا تبذل الجهد الكافي ورأس المال لا يعنيه الجهد الحقيقي والإضافة والمغامرة بقدر ما يعنيه القرب من السلطة وتحقيق مكاسب سريعة بلا جهد ومهما كان الأمر فإن الاستغلال واحد سواء جاء من الدولة أو من الرأسمال الخاص ولكن ما يجب عمله هو عدالة توزيع الأعباء والعوائد كما قلت وتوفير بيئة عمل صحية وآمنة وتقديم رعاية صحية واجتماعية تجعل العامل يستطيع مواصلة العمل لأن هذا النوع من الإرهاق بلا رعاية جيدة وبلا اجر مناسب سيجعل العامل يسقط سريعا وإذا راهن الرأسمالي على إحلال واحد من الواقفين في الطابور الطويل للبطالة محله فسينتهي الأمر بثورة الجميع ضد هذا النظام.
الطريف أنني تذكرت أن مصر أيضا تعاني من عجز فادح في الموازنة (وفي ميزان المدفوعات) لكن لم أر مسؤولا أو رأسماليا أو عاملا أو مواطنا مدركا لأبعاد القصة كما رأيتها في أمريكا والتي هي اقوى قوة اقتصادية في العالم. الفقراء والأغنياء في مصر مبذرون كل في حدوده. المؤسسات العامة والخاصة مبذرة كل بطريقته.
فمتى نجد طريقة لشغل المجتمع بهذا الموضوع الخطير ومتى نجد طريقة لتوزيع أعباء تصويب عجز الموزانة بعدالة على الطبقات الاجتماعية المختلفة بل وعلى الشركاء الدوليين الذين استفادوا من مصر طوال الحقب الماضية لست ادري.
في أمريكا تصادف مع زيارتنا وجود محافظ البنك المركزي المصري ومعه وزيرا المالية والتخطيط لحضور اجتماعات الربيع للبنك الدولي وصندوق النقد وقد عرفنا الكثير مما ناقشاه في أمريكا وعلمنا انه كان هناك توجهان الأول ويمثله محافظ البنك المركزي والدكتور عبد الشكور شعلان - ممثل المجموعة العربية في صنددق النقد الدولي - وهما يريان أن مصر تمر بمحنة اقتصادية فعلا لكنها يمكن تخرج منها سريعا لو التزمت بإصلاحات اقتصادية معينة منها ترشيد دعم الطاقة وتحرير أسعار الصرف اكثر مما هي محررة وتحرير التجارة اكثر مما هي محررة وهكذا والاثنان يتفقان على انه سيتم إبرام اتفاق مع صندوق النقد خلال 5 إلى 6 أسابيع ويتوقعان أن تعقبه موجة واسعة من المساندة لمصر من الهيئات الدولية المانحة المختلفة.
الفريق الثاني ويمثله خبراء مصريون ورجال أعمال مصريون وأمريكيون ومسؤولون أمريكيون وأعضاء كونجرس وشيوخ ويرى أن مصر في محنة اقتصادية - عبدالشكور المتفائل نفسه قال إن مصر في محنة - ولا يتوقع الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد قبل انتخابات البرلمان ولكنه يخشى أن تسقط مصر في الهاوية ولذلك ينصح الإدارة الأمريكية بمساندات وقتية حتى لا تسقط ومن هنا جاء برنامج مساعدة مصر عاجلا بـ190 مليون دولار نقدا تم دفعها فعلا وأخرى تبلغ 260 مليونا سيتم دفعها نقدا أيضا لو تم التوصل لاتفاق مع الصندوق كحافز للحكومة المصرية كي تبذل جهدا اكبر.
وهناك 550 مليون دولار أخرى يجري التفاوض عليها ستقدمها أمريكا لتمويل مشروعات أو كضمانات قروض. أليس أولى بنا كمصريين أن نولي عملية خفض الإنفاق وترشيده بعدالة المزيد من الجهد لنكفي انفسنا شر الوقوع في مثل هذه التسولات والمطبات والمخاطر؟.
نقلا عن جريدة عمان