تحديد سعر الفائدة / العائد عبر وضع معدلات لها تحكم تعاملات البنك المركزي مع البنوك، ومراجعتها بشكل دوري، هو إحدى أدوات السياسة النقدية التي تتبعها البنوك المركزية للتأثير على الأسواق وتشجيع النمو والاستثمار والتشغيل، وتحقيق استقرار مستويات الأسعار.
بقية أدوات السياسة النقدية مثل سعر الصرف وإدارة قواعد الائتمان والتحكم في السيولة وغيرها معروفة ولا مجال لإعادة ذكرها هنا.
وكما هو معروف أيضا فإن أي رفع أو خفض لأسعار الفائدة في أي بلد هو من القرارات التي تنتظرها الأسواق بلهفة، وتحاول أن تقرأ أي إشارات تصدر عن البنك المركزي أو محافظه او مساعديه بشأنها قبل أي اجتماع مقبل للجنة السياسة النقدية المنوط بها مراجعة وتحديد هذا الأمر، وتحاول تخمين ما هو آت ولا أقول التأثير عليه بالدفع في هذا الاتجاه او ذاك.
ومنذ نحو شهر كان صندوق النقد الدولي قد نصح الحكومة المصرية بضرورة رفع سعر الفائدة حتى تستطيع السيطرة علي معدلات التضخم والتي وصلت الى مستوى 32 % وهو أمر غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يكن النصح موجها عبر مخاطبات داخلية بين الصندوق والحكومة ولكنه كان نصحه معلنا كرره اكثر من طرف من قيادات الصندوق وفي اكثر من مناسبة.
انه لأمر عادي ان يقترح الصندوق ذلك فمن الناحية النظرية – وكما تقول كتب الاقتصاد – فإن رفع الفائدة من شأنه أن يدفع المستهلكين من القطاعين العائلي والخاص الى تفضيل ربط أموالهم كودائع في البنوك طمعا في العائد المرتفع بدلا من إنفاقها في الاستهلاك او حتى على بعض الجوانب الاستثمارية.
ومن العادي أيضا ان يتقبل البنك المركزي في أي بلد فيه تضخم مرتفع مثل هذه النصيحة غير ان الواقع في كثير من الحالات له متطلبات منذ ظهور هذه النصيحة او حتى لا ينتظرها من احد فهو يعرف أهميتها.
وقد راح البعض يرفض النصيحة من حيث المبدأ بما أنها جاءت من صندوق النقد الدولي البغيض، والبعض الآخر رأي أن من الموضوعية انه لن يكون مفيدا بحال رفع سعر الفائدة، فهو لن يؤدي الى خفض التضخم، لان التضخم الحالي في مصر ناتج بالأساس عن ارتفاع التكاليف نتيجة تحرير سعر الصرف في الثالث من نوفمبر الماضي وليس عن زيادة الطلب، فضلا عن ان رفع الفائدة سيزيد التكاليف على منتجي السلع والخدمات وسيقومون بدورهم بترحيل الزيادة الى المستهلكين وبالتالي يرتفع التضخم بدلا عن ان ينخفض.
وراح فريق ثالث يطالب المركزي والحكومة باستخدام أدوات أخرى للحد من التضخم بدلا من زيادة الفائدة.
أدوات مثل تحسين كفاءة الأسواق الداخلية ومنع الممارسات الاحتكارية والتصدي للاستغلال وزيادة المعروض بل وأيضا استخدام أدوات الاحتياطي القانوني للبنوك لدى البنك المركزي في سحب جانب من السيولة بدلا من رفع الفائدة إلى آخره.
وأخيرا راح فريق رابع يشير الى ان من المحتمل ان يلجأ المركزي بالفعل الى زيادة الفائدة وان تكون الزيادة بواقع نصف بالمائة (50 نقطة أساس). من الطبيعي اأيضا ان يعرب اغلب المناقشين عن تخوفهم من الآثار السلبية العنيفة لرفع الفائدة علي الخزانة العامة التي هي اكبر مقترض في مصر (لسد عجز الموازنة) والتي تكافح من اجل تحقيق الانضباط المالي عبر خفض العجز والسيطرة علي الدين العام بشقيه الداخلي والخارجي.
وصدرت إشارات في اكثر من مرة عن جهات معينة في الحكومة بعدم تفضيل الأخذ بمقترح صندوق النقد الدولي برفع الفائدة.
وبينما الحال كذلك عقدت لجنة السياسة النقدية للبنك المركزي اجتماعها الدوري يوم الأحد الماضي وقررت رفع سعر عائد الإيداع والاقتراض لليلة واحدة بواقع 200 نقطة أساس ليصل الى 16.75% و17.75% على التوالي، ورفع سعر العملية الرئيسية للبنك المركزي بواقع 200 نقطة أساس ليصل الى 17.25 %، وزيادة سعر الائتمان والخصم بواقع 200 نقطة أساس ايضا ليصل الى 17.25 %.
كان الموعد المعهود لإعلان نتيجة اجتماعات اللجنة هو السادسة والنصف مساء لكن هذا القرار تأخر إعلانه نحو ثلاث ساعات، ما أثار قلقا واضحا، ثم جاء القرار نفسه، وفي اثر إعلانه مباشرة بدأت ردود الأفعال تتوالى والشعور بالصدمة يهيمن على تعليقات الكثيرين.
وفي الصباح التالي تحول الانتقاد الى ما يشبه الصراخ وبصفة خاصة من مجتمع الأعمال بل وفي سابقة نادرة اصدر اتحاد الصناعات بيانا يطالب فيه المركزي بإيجاد السبل لتخفيف أعباء الفوائد على المقترضين الصناعيين وينوه الى خطورة القرار، وقال من قال ان القرار يدمر الاستثمار، او يشعل التضخم بدلا من ان يعالجه، أوانه لن يسحب أي سيولة ببساطة لأنه لم يعد هناك سيولة، كما يحمل الموازنة العامة زيادة في فوائد الدين قد تصل الى 30 مليار جنيه في السنة (الدولار يساوي 18.2 جنيه )، إضافة الى انه سيربك توقعات الأسواق ويزيد الشعور بان الفترة الانتقالية الصعبة في عملية الإصلاح الاقتصادي ستطول اكثر مما توقعوا، او قالت لهم الحكومة.
وهناك من قال ايضا بان تحميل عبء جديد على الخزانة العامة لن يجعل أمامها من مفر سوى تحرير أسعار مواد الطاقة مع توجيه الدعم للمستحقين عبر البطاقات الذكية لتوفير مليارات من جراء ذلك ( وبما يعنى زيادة الأسعار ) بعد ان دلت علامات رسمية ان الحكومة توافقت مع صندوق النقد الدولي على تأجيل رفع أسعار الطاقة.
وهناك من أفتى بأن حتى المودعين انفسهم والذين لديهم سيولة لن يستفيدوا من القرار فصاحب الوديعة القديمة إذا أراد ان يسيلها للتحول الى جديدة سيخسر كثيرا وتصبح الفائدة التي سيجنيها محدودة هذا اذا تبنت البنوك الزيادة الجديدة بكاملها ورفعت أسعار العائد على الودائع بنفس معدل المركزي، اما من لديهم قدر من السيولة وهم من أشار اليهم البنك المركزي ذاته في بيانه المفسر لرفع سعر الفائدة فهم أؤلئك الذين يسعون الى شراء أصول تأمينا لأنفسهم من مخاطر التضخم، فهؤلاء في تقديري سيستمرون على نهجهم في شراء الأراضي والعقارات مثلا بغض النظر عن ارتفاع الفائدة ثم انه يدركون ان رفع الفائدة سيكون لآجال قصيرة.
بهذا الشكل يكون الكل خاسر من القرار كما يرون، ولقد كنت من بين الذين قالوا ان القرار غريب ومفاجئ وصادم.غريب لأنه جاء بعد خمسة أيام بالضبط من تصريحات محافظ البنك المركزي ذهبت في تفاؤلها بالوضع الاقتصادي والنقدي ونتائج الإصلاحات حدا بلغ ان كثيرين تعاملوا معها بعدم التصديق، وهو مفاجأة كما قلت لأن أحدا لم يتوقعه ولم يتوقع ان تستجيب الحكومة للنصيحة المعلنة من صندوق النقد الدولي و أنها ستقنعه بان ذلك ليس افضل سبيل لكبح التضخم.
وهو صادم لان معدلات التضخم الشهري كانت آخذة في التراجع واستقرت مستويات الأسعار المرتفعة ومعها معاناة الناس القاسية منها على أمل ان ينتهي كل ذلك بعد أغسطس او سبتمبر المقبلين وبالتالي جاء قرار اللجنة بما يشير الى احتمال ان يكون ما هو مقبل أصعب او ان تستمر الفترة القاسية اكثر من المأمول، لكنني قلت في BBC و لأطراف مهنية محيطة انه يجب الا نفترض ان أعضاء لجنة السياسة النقدية الموقرين فاقدي الرشادة الى هذا الحد، ولابد ان لديهم مبررا قويا لهذا القرار وألقيت بتفسيري وهو ان المركزي يتخوف من حدوث موجة مضاربات على الدولار في الفترة المقبلة والتي سيسدد فيها التزامات خارجية ضخمة وبالتالي استبق ذلك بهذا القرار حتي لا يتراجع الجنية مرة أخرى أمام الدولار بما يزيد من انفلات الأسعار.
ما اود قوله انه لا يوجد قرار نقدي او غير نقدي في المجال الاقتصادي ممكن ان يرضي الجميع، وبالتالي يتعين ان نصبر قليلا عند دراسة القرارات وتحليلها وتقييمها،فقد يكون لها سبب مقنع لا نعمله او فيها خير لانراه.
نقلا عن عُمان