يحتدم النقاش يوما بعد آخر في أوساط الاقتصاديين والتنفيذيين والنيابيين، وكل المعنيين بالشأن العام، حول الأصول المملوكة للدولة وكيفية تعظيم عوائدها. ويزيد من صخب الجدل حول هذه القضية أن الكثير من الأصول العامة الصناعية أو الخدمية يخسر أو يدار بعدم كفاءة وبتراخ، ويحقق عوائد ضعيفة لا تتناسب مطلقا مع حجم الأصول أو الطاقات الموجودة. كما يضاعف الخلاف حولها أن المناقشات لا تخلو من تحيزات إيديولوجية من اللحظة الأولى، فهناك من ينحاز بشدة إلى ملكية الدولة ودور الملكية العامة، وهناك من لا يرى إلا القطاع الخاص والملكية الخاصة ويطالب طوال الوقت بنقل العام إلى الخاص بالبيع أو الشراكة أو التأجير، وإذا لم يك ذلك مناسبا فالتصفية هي الحل. في مناخ كهذا لا يجد الصوت الموضوعي أذنا مصغية.
لا يلتفت كثيرون إلى حقائق تدعمها شواهد لا حصر لها، منها أن عيوب العام هي انعكاس لعيوب الخاص والعكس بالعكس، فتعيين أعضاء مجالس الإدارات وأعضاء الجمعيات العمومية مثلا في الشركات العامة تشوبه الكثير من المجاملات والتدخلات ذات الطبيعة السياسية والحزبية، بيد أن تعيين أعضاء مجالس الإدارات في الشركات الخاصة والكبيرة منها -بنحو خاص- يشوبه العيب نفسه وتحكمه قواعد تنتمى الى صلات القرابة وشبكات المصالح ومجاملة رجال الإدارة بتعيين أقربائهم مثلا وهكذا. وإذا كان هناك عشرات من المصانع العامة المتعثرة فهناك مئات وربما آلاف من المصانع الخاصة المتعثرة. وفيما يتعلق بعدم مراعاة تعارض المصالح ومبادئ فصل الملكية عن الإدارة ونظم التحفيز والترقي والفساد والخلل الإداري، فالكثير من العيوب مشتركة أيضا في القطاعين. ولأن الدول العربية منخرطة كلها حاليا في برامج إصلاح اقتصادي وطنية أو بالتعاون مع مؤسسات دولية، وبما أن أحد أهم جوانب هذه البرامج هو إدارة الأصول العامة وإعادة هيكلتها أو خصخصة بعضها وزيادة الاعتماد على الاستثمار الخاص مع الدفع باتجاه أن تكون الدولة منظم ورقيب وحكم وليست لاعبا مباشرا في النشاط الاقتصادي، فالأفكار الموضوعية للتعامل مع هذا الملف باتت مطلوبة وبشدة حتى لا تنتكس الإصلاحات أو تشتد مقاومتها من هذا القطاع، أو ذاك من الجماهير والعمال والموظفين والمستثمرين المحليين أو الأجانب.
وعلى ذلك أود أن أعرض على القراء خلاصات قد تكون مفيدة ناتجة عن الانخراط في عدة حوارات تابعتها أوشاركت فيها خلال الأسابيع الماضية حول مستقبل الشركات العامة في عالم مفتوح. إن بلادنا تحتاج إلى عمل خرائط واضحة للتنافسية القومية أو القطاعية وإصلاحات مؤسسية شاملة تطال كل القطاعات والمجالات والمواقع على أن يتم ذلك في ظل رؤية واضحة للأهداف الاقتصادية والاجتماعية للدولة ولأدوار الفاعلين الاقتصاديين المختلفة من دولة وحكومة وقطاع عام وخاص وتعاوني وغير رسمي. وأن يكون متخذ القرار على وعي كامل بأسباب نشأة وتطور الملكية العامة للشركات حتى يتمكن من تحديد دورها الجديد في المستقبل الذي يختلف بكل تأكيد عن الماضي وظروفه مع الإشارة إلى أن أحد أهم أسباب دخول الدولة الحديثة بعالمنا العربي في التصنيع مثلا، كان عجز أو إحجام القطاع الخاص، كما كان محاولة لتنويع وتعميق الهيكل الاقتصادي وضمان تحقيق حد أدنى من تأمين اقتصاد الدولة ضد التقلبات الخارجية الحادة أو الضغوط الأجنبية.
من المفيد أيضا تحديد معايير إدارة الأصول العامة في أجهزة الدولة كافة، فالملاحظ أن للدولة كيانات إنتاجية وخدمية كثيرة ولكن كل منها يخضع لقانون أو لوائح ونظم مختلفة، بما في ذلك نظم التعيين والأجور والمساءلة.
وهنا يأتي دور أهمية طرح السؤال الواجب: لماذا أنا كدولة موجودة في هذه الصناعة أو هذا القطاع أو املك هذه الشركة أو ذاك المصنع؟ مع مراعاة أن السؤال يجب أن يمتد إلى آفاق زمنية بمعنى هل انسحاب الدولة من هذا النشاط أو ذاك، خاصة إذا كان خاسرا أو قليل العائد، سيكون له انعكاسات سلبية في المستقبل رغم إيجابيته اللحظية؟ وعند الشروع في طرح شركات أوحصص كبيرة منها للبيع للمستثمرين يتعين تحديد التوقيتات بدقة والتزام الشفافية الكاملة، فيما يتعلق بسبب الطرح والهدف منه وآلياته وسبل التقييم وكيفية حماية حقوق المستثمرين، إذا كان المال العام سيظل صاحب أغلبية وهكذا. أيضا لا يمكن فصل الإصلاح الهيكلي للأصول العامة عن الإصلاح التشريعي وتطوير قوانين العمل والرقابة ومعايير قياس الأداء وتقوية أجهزة المحاسبة والمساءلة.
فالملاحظ ان المتحمسين للقطاع الخاص والمطالبين بأن يقتصر دور الدولة على التنظيم والرقابة نادرا ما يطرحون أفكارا يعتد بها لتطوير الدور الرقابي والتنظيمي للدولة، ونادرا ما يبذلون الجهد أو يعنون بالحشد من أجل ذلك ما يترك انطباعا، بأنهم يقولون ذلك ريثما تبيع الدولة ما تملكه لهم ولكنهم لا يريدون حقا رقيبا قويا أو أجهزة تنظيمية فاعلة ويقظة وكفؤة وحاسمة. من حسن الحظ أن أهل اليمين وأهل اليسار اتفقوا على أن تسعير منتجات الشركات العامة يجب أن ينطلق كلية من الاعتبارات الاقتصادية، وأنه لا يجوز أن تفرض الدولة على الشركات العامة أن تبيع منتجاتها بأقل من التكلفة بحجة البعد الاجتماعي، وإذا أرادت الدولة أن تدعم منتجا او خدمة فيجب أن يتم ذلك من خلال الخزانة العامة أو بعيدا عن التدخل في التسعير، ضمانا لسلامة الحسابات الاقتصادية وحتى يمكن محاسبة قيادات الشركات العامة على نحو صحيح.
ومن الأفكار الجديدة التي تستحق التأمل أن يكون هناك وحدة دعم تكنولوجي للشركات العامة، تتولى تقديم الخبرة الفنية لتطوير المعدات والمصانع وكيفية مسايرة التكنولوجيات الحديثة، مع التوسع في استخدام تكنولوجيا المعلومات في تحسين القرار الإداري وزيادة المبيعات والمنافسة في الأسواق. وقد دار ويدور في دوائر عربية مختلفة نقاش ساخن فعلا حول دور العمال في الإدارة وهناك مجموعات من العاملين في أسواق المال والترويج وإدارة الأصول والثروات يرفضون بشدة وعلانية أي وجود للعمال في مجالس الإدارات العامة أو الخاصة بل وأي وجود للجان النقابية للعاملين على أساس أن ذلك يعيق الإصلاح ويحول اجتماعات مجالس الإدارات الى جدل مستمر حول الحوافز والأرباح ولا يترك وقتا لبناء استراتيجيات للشركة. وغاية ما يراه هؤلاء هو أن تكون هناك لجنة عاملين تتواصل مع الإدارة دون أن تشارك في القرار. ومن خبرات عالمية وواقعية قال آخرون: إن إشراك العمال في مجالس الإدارات وفي القرارات بشكل عام له ضرورات موضوعية في مقدمتها أن يتفهم أعضاء مجلس الإدارة الطبيعة الفنية لعمل المصنع أو الشركة، وأثر قراراتهم على الإنتاج والإنتاجية والعمال، بل ويذهب كثيرون إلى أن نعرة التعالي على العمال والتأفف منهم هي نزعة طبقية وليست من الإدارة الرشيدة في شيء، وأن احترام العاملين وحسن الاستماع إليهم يحقق قفزات في الإنتاجية وفي مستوى الرضا الوظيفي بالمنشأة.
وأخيرا فقد يكون من المناسب التذكير بأن بيع الأصول العامة، يجب أن يكون قرارا داخليا مدروسا ويحقق دعم تنافسية البلد ويزيد من القيمة المضافة القومية وليس مجرد استجابة لضغوط أو توصيات من صندوق النقد الدولي أو غيره. أقول ذلك لا تقليلا من شأن الصندوق ولا تعريضا بمن يتخذ القرار ولكن انتصارا لعقلانية طالما افتقدناها في قرارنا الاقتصادي، وربما غيره ففعلا ما حك جلدك مثل ظفرك وقد قال لي أول رئيس للمكتب الفني لوزارة قطاع الأعمال العام بجمهورية مصر العربية- وهو خبير محترم – وكان من قبل نائبا لرئيس جهاز المحاسبات القومي: إن المسؤولين الحكوميين، في زمن برنامج الإصلاح مع صندوق النقد مطلع التسعينيات، كانوا لا ينامون الليل إذا اقترب موعد مجيء بعثة صندوق النقد الدولي دون أن يكونوا قد باعوا ما طلب الصندوق بيعه، ومن هنا حدثت أخطاء شديدة في التقييم والطرح وإبرام العقود ونبه إلى الأهمية البالغة للتأني والتعلم من الخبرة الدولية والحساب الدقيق لكل خطوة.
نقلا عن عُمان
ههههههه بلد المليون خبير و النتيجة صفر او بالاصح تحت الصفر.