لا حديث اقتصاديا اليوم فوق أحاديث الأسواق الناشئة، وما حل وما سيحل بها في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية، الدولية والإقليمية الراهنة. الحسابون يحسبون كل يوم كم من الأموال خرج من هذا البلد أو ذاك وإلى أي حد يمكن أن يؤثر ذلك على التصنيفات الائتمانية واحتياطيات الدول وأسعار الصرف وطروحات القروض والسندات الدولية؟ كل طرف سواء كان دولة أو صندوقا سياديا أو بيت استثمار كبيرا أو بورصة أو جماعة مصدرين، يسعى في ظل عدم اليقين السائد لأن يتجنب أولا أي خسائر، ويعمل على المناورة بأعلى قدر من اليقظة بأسعار الصرف لامتصاص التحولات أو مسايرتها، أو يرتب لكيفية تفادي أي مفاجآت، أو تحقيق أي مكاسب ولو سريعة أو طارئة قد تلوح في الأفق في ظل التشويش الحالي. تستكتب الصحف والمواقع كل يوم- وتسأل – خبراء في أسواق المال ورصد التدفقات الداخلة والخارجة، والمحنكين في شؤون حساب أي الأصول سيكون أكثر عرضة للخسارة، أو يشكل مغناطيسا جاذبا للأموال الحائرة؟
الطريف والمثير في وقت واحد أن تحليلا أخيرا صدر حول أزمة تركيا النقدية والاقتصادية عموما وانعكاساتها، ورغم كل ما تثيره من مخاوف ويثار حولها، قال: ان المشكلة اكبر من تركيا ومن الأسواق الناشئة.. إنها ليست في «الليرة» لكنها تكمن في عملة الصين المنخفضة وسيكون لذلك- وفي وجود أزمة تركيا- تداعيات إقليمية وتأثيرات سلبية على الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، ثم صدمة لاحقة بالولايات المتحدة ذاتها، وفقاعة تنفجر، وهذا يعني أنه يتوقع أزمة اقتصادية عالمية جديدة.
لا يوجد تأكيد على ذلك لكن هذه الفرضية تبين حالة الذعر أو شبه الذعر التي تجتاح دولا ومؤسسات. ومن المؤكد ان حالة عدم يقين قوية تجتاح الأسواق عموما والأسباب معروفة وفي مقدمتها كما هو معلوم استحالة التنبؤ بالمدى الذي يمكن أن يذهب إليه الرئيس الأمريكي ترامب في أي صراع تجاري، أو حتى نووي!، مع أي دولة أو كتلة، أو توقع ما الذي يعنيه بـ «مصلحة الأمن القومي الأمريكي» و«أمريكا أولا» في هذه اللحظة أو تلك.
وإلى جانب العوامل الاقتصادية وفي القلب منها حروب العملات وصدامات رفع التعريفات الجمركية بالتبادل، ووضع القيود على التجارة الدولية، والصخب الدائر حول أسعار وإنتاج النفط، والصراعات المرتبطة بالغاز، هناك عوامل سياسية تدعم القلق المالي والتجاري والاستثماري بل وتغذيه عمدا أو عن غير قصد. لا أتحدث هنا عن النزاع الأمريكي الإيراني أو الأطلسي الروسي أو الأمريكي الكورشمالي، أو السخونة البحرية السائدة حول بحر الصين الجنوبي، ولكن أشير الى ما لا يتم الالتفات إليه كثيرا أو طويلا ألا وهو الصراع على العقول والأدمغة في العالم، وما قد يجره إلى الساحة الاقتصادية من معاناة. لاحظ كتاب في هذه الصحيفة وفي العديد من الصحف الكبيرة كيف ان هناك إنفاقا متزايدا وغير شفاف تقوم به مجموعات انغلاقية بعينها وبدعم واضح من شخصيات امريكية مثيرة للجدل، بغية تغيير ذهنية جماهير الناخبين والجماهير بعامة، ومعه عمل تحتي أو خفي حثيث، وتشاركات غامضة بين اطراف شعبوية أو قومجية أو يمينية متشددة عموما، في بلدان ديمقراطية أو نصف ديمقراطية أو حتى شمولية، شمالية أو جنوبية، لصناعة ايديولوجيات جديدة ترث ما كان قائما وظل منذ الحرب العالمية الثانية الى فوز ترامب بالرئاسة. تحالفات خفية تتم بين اطراف كان من المفهوم حتى وقت قريب انهم أعداء أو خصوم، لكن فجأة بات يربطهم ميل مباغت، أو على الأقل يبدو لنا أنه كذلك، الى إيجاد عالم جديد يتصورون أن الدنيا معه ستكون أفضل، وأن مصالحهم أو مصالح بلادهم ستكون في موقف أقوى. هذه العملية ستعكس نفسها على الاقتصاد والتجارة وحركة الأموال والاستثمارات والقوى العاملة بأشكال شتى قد لا يكون بعضها قد ظهر حتى الآن لكن الحرص يوجب تتبعها بكل عناية.
من الصعب ان تمنح الجمهور المالي أو غير المالي بعض الأمل في أجواء يسودها التشاؤم والخوف بسبب ميول الانغلاق الاقتصادي والتشدد العرقي والسطو على معايير ما هو أخلاقي أو غير أخلاقي للانفراد بإقرارها ، لكن الأمل يجب صناعته ولن يكون ذلك الا ببذل كل ما نستطيع لايجاد عالم اكثر اندماجا وعدالة وتكافؤا لكي نرغم هؤلاء على ان يدركوا بيقين انهم لا يمكن ان يفوزوا في معركتهم. كيف ؟.
التشابكات المادية والانسانية بين البشرية والتي تنامت سواء بفضل العولمة التي يريد ترامب ومن على شاكلته هدمها، أو ثورة الاتصالات والمعلومات والمواصلات، أو قوة النزوع المتزايد لدى مئات ملايين من البشر لاكتشاف الفرص والمخاطر على صعيد الكرة الأرضية خروجا من حياة محلية دامت منذ آلاف السنين، وكذا التوجه إلى التعرف على الآخرين والتقبل الواسع في اشد المواقع قبلية أو عشائرية لفكرة ان ارض الله واسعة وان على المرء ان يتحرك ليعاين طبيعة جديدة ويجرب ويجتهد في ان يحقق الهدف الذي من اجله خلق الله الانسان ألا وهو إعمار الأرض. ايضا فان تشابك المصالح الذي يتم بشكل شرعي وسليم أو نصف شرعي أو غير شرعي أو غير رسمي بمعنى أدق لا يتوقف بل ويتحايل احيانا على العوائق حين توجد أو تقررها دولة أو اكثر.
كل تلك التشابكات وصلت الى درجة تستعصي على التدمير بالسهولة التي يتصورها أمثال «ستيف بانون» ومريديه في تقديري، وقد يدل على ما أقول موقف الصين في الحرب التجارية مع الولايات المتحدة فقد اختارت بكين في النهاية نوعا من التهدئة وأجبرت أمريكا في تقديري أيضا على نوع من تخفيف النبرة لأن الخسائر على الجانبين ستكون كبيرة مهما توهم ترامب أو حاول ان يتغافل عن ذلك. أيضا موقف ألمانيا من اتجاه ترامب لمعاقبة صناعة السيارات الأوربية – وهو يعني تحديدا ألمانيا – اذا فضلت ألمانيا ايضا الرد بطريقة هادئة أو قوية دون صخب فاتحة الباب لقدر من المرونة والسعي لحلول وسط.
الأمر نفسه ينطبق على ازمة العملة التركية والاضطراب الذي يسود اسواق المال والسلع والخدمات في ذلك البلد على خلفية النزاع مع الولايات المتحدة حول جملة من الملفات الظاهر منها هو ملف القس المحتجز «برانسون». فقد قال لي اكثر من خبير مصري عملوا في تركيا انهم يثقون ان الطرفين في النهاية سيتوقفان عند نقطة، وإن أزمة تركيا لن يتم تركها لتؤدي الى انهيار في الاقتصاد التركي لأن اردوغان نفسه بكل تسلطه وانفراده بالقرار رجل ميكافيلي حرفي ومستعد لعمل أي شيء لبناء مجده أو ما يتصوره مجده ولن يترك ما قام به ينهار، كما ان الاتحاد الأوروبي لا يملك ترفا أن يدع تركيا تتداعى بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من كوارث، وحتى لو رحبت الولايات المتحدة بخروج تركيا من الناتو أو شجعت عليه أو ضغطت من اجله فسيظل هناك ما يربط تركيا/ أردوغان بالغرب على جانبي الأطلسي ببساطة أيضا لأن فض التشابكات ليس سهلا أولا داخل تركيا نفسها بين قواها الاجتماعية المختلفة، وثانيا لأنه كم من بنوك وشركات أوروبية لها أموال ومصالح في تركيا وكم من مصالح عسكرية تربط أمريكا بتركيا الخ.
قد لا يربح المتفائلون اللعبة لأن أوضاع العالم معقدة فعلا، أو قد لا يربح جميعهم، لكن يجب وبشكل حاسم الانتصار على كل أشكال التسلط والعنصرية وإشاعة الذعر في العالم تحقيقا لمصالح ضيقة للغاية أو ارضاء لنزعات أناس غريبي الأطوار أو مؤسسات أشد غرابة ؟!.
نقلا عن عُمان