تعاني مصر حاليا من فجوة كبيرة في مواد الطاقة اللازمة لنواحي الاستهلاك المختلفة (صناعي، زراعي،تجاري،منزلي) وتلك التي يتم انتاجها او استيرادها. وقد ساعد على تفجر الازمة اكثر واكثر نقص النقد الاجنبي اللازم لاستيراد ما يغطي فجوة المواد الاساسية ومنها السولار والبنزين والبوتاجاز والمازوت فضلا عن مواد غذائية اساسية لا تعنينا هنا.
ومنذ سنوات تنقل الصحف المصرية تغطيات محلية ساخنة عن معارك الصراع من اجل الفوز باسطوانة بوتاجاز خاصة في موسم الشتاء الذي يحدث فيه نقص فيها نتيجة زيادة الاستهلاك .
كم سقط من قتلى وجرحى في تلك المعارك وكم اطلقت الحكومة من تصريحات عن قرب انتهاء الازمة او قرب ايجاد حل نهائي لها دون تطبيق على الارض. غير أن الازمات لم تكن تمتد الى سلعة اخرى من سلع مواد الطاقة ولم تكن تظهر في البوتاجاز ذاته في وقت الصيف.
وقد نبهني خبير مخضرم منذ عامين الى مشكلة خطيرة لم تلتفت الصحف بالمرة اليها مع انها تلعب دورا كبيرا في ازمات البوتاجاز – وغيره – الا وهي نقص الطاقات التخزينية والقدرات اللوجستية من ارصفة موانئ استقبال مجهزة ومن خطوط نقل وصهاريج وانابيب وشاحنات وعدم اضافة استثمارات اليها منذ سنوات طويلة.
لقد اعتاد رئيس الدولة في مصر أن يسال كل صباح او كل فترة عن مخزون البلاد من القمح ومدى كفايته ويعني الرأي العام كثيرا بهذا الرقم وينتظره ويعلق عليه وتعلق عليه وكالات اجنبية معنية بمشتريات مصر من الغلال لكن الثقافة العامة لم تكن تعرف ايضا وربما ما زالت اهمية السؤال بالقدر نفسه من الاهتمام على المخزون من السولار والمازوت والبوتاجاز وقدرته على تغطية عدد مناسب من الايام.
لقد تنبه المضاربون على البوتاجاز والسولار والمهربون انفسهم لأهمية هذه المعلومة فاصبحوا يسألون عنها ويشددون النكير على الاسواق اذا ما علموا أن المخزون قليل او علموا أن مراكب محملة بالمادتين لا تستطيع دخول الموانئ بسبب النوات الجوية او لعدم امتلاك الحكومة النقد الكافي لسداد ثمن الشحنات او ثمن نقلها.
يؤدي ضعف الطاقات التخزينية مع عوامل زيادة الاستهلاك وتراجع انتاج مصر من النفط الخام بانتظام منذ 1993 وتصدير جانب من الغاز المصري في ظروف غير مريحة الى نتيجة واحدة وهو انه لابد أن تمتلك البلاد كميات كبيرة من النقد الاجنبي لتستورد ما يلزمها اولا بأول حتى تنتظم النفقات الى السوق الداخلي وحتى لا يجد اي مهرب او مضارب فرصة للعب على الندرة او عمل خطط صارمة للحد من استهلاك الكهرباء (محطات انتاج الكهرباء الاكثر شراهة لاستهلاك الغاز والمازوت) واطفاء جميع مناطق البلاد بالتناوب وبشكل عادل حتى يتوافق الانتاج مع الاستهلاك.
ولان توفير نقد اجنبي كاف يلزمه تحسن اقتصادي والتحسن الاقتصادي لا يمكن أن يتم بدون توافق سياسي وعقلانية واحترام لاحكام القضاء ولمؤسساته وعودة للأمن فان المواطن العادي نفسه بات يدرك أن الحل الثاني هو الذي سيحدث حتى من قبل أن تصرح الحكومة ذاتها بانه سيتم قطع الكهرباء وتخفيف الاحمال عن جميع المناطق بالبلاد بالتناوب.
صحيح أن بعض التدفقات النقدية هطلت فجأة من قطر ومن ليبيا غير أن الكل يدرك انها مجرد مسكنات وأنه لن يحدث تحسن حقيقي لأزمة الطاقة الا بتحسن الاقتصاد وزيادة الاستثمارات في جميع المجالات ومنها نواحي انتاج الكهرباء من المصادر القديمة او الجديدة والمتجددة .لسان حال المواطن العادي هنا يقول: لقد كان لدى البلاد 36 مليار دولار احتياطيات من النقد الاجنبي - فضلا عن نحو 9 مليارات احتياطيات غير رسمية – وتم استنزاف كل ذلك في عامين فما الذي سيفيده وجود وديعة اضافية من قطر او من ليبيا بالقيم المعلن عنها (3 مليارات دولار وملياري دولار)؟.
على ذلك برز الحل الفردي وعلى الطريقة المصرية: كل اسرة وكل متجر وكل مصنع وكل مزرعة تبحث او يبحث الآن ومنذ اسابيع عن بديل وازدهرت في الاثناء تجارة البدائل وظهر ما يمكن أن نسميه «اقتصاد الظلام» اي انتاج وتداول واستيراد واستهلاك سلع تغني حال انقطاع التيار. سنجد هنا مولدات الكهرباء المستوردة من الصين وغير الصين والمحلية والمجمعة محليا بأحجام وقدرات مختلفة وبتكنولوجيات مختلفة ويتميز منها بخاصة تلك التي تستطيع أن تعمل آليا فور انقطاع التيار.
هناك معدات في المصانع تتعرض لخطر جسيم اذا انقطع التيار عنها واخرى لايمكن اعادة تشغيلها الا بعد فترة اذا توقفت وثالثة يترتب على عدم عملها خسائر ضخمة في معدات أخرى ترتبط بما تقوم به الاولى وهكذا. في الريف فان الفلاح يصبر على مكاره لا آخر لها ويصبر على انقطاع التيار في المنزل وعلى انقطاعه في الشوارع العامة لكن الفلاحين لا يتسامحون مع نقص الوقود اللازم لري مزارعهم او حصادها ويا ويل من يثورون ضده في لحظة كتلك.
في بيوت المدينة ثمة حلول اجتماعية لازمة الظلام الخفيفة تبدأ بتبادل الزيارات بين الاقارب حين ينقطع التيار في بيت ويبقى في آخر حتى يتسنى للطلبة أن يذاكروا وبالبحث عن كشافات وشموع ومصابيح تعمل بالكيروسين - كالتي كانت تستعمل في الريف قبل دخول الكهرباء - وزيادة الحرص على مراقبة سلامة الاجهزة بالبيوت وبخاصة المبردات والثلاجات. وبالطبع فان بديل الغسالة الآلية هو العودة الى الغسيل بالطريقة التقليدية لكن من تتحمل ذلك من ربات البيوت او يتحمله؟.
لكن حين تزيد ساعات الظلام ويتفاقم خطر انقطاع التيار ويصبح في جانب كبير منه ايضا ممنهجا ينشغل المجتمع عن آخره بالبحث عن حلول ابعد كاقتناء مولدات بالبيوت ومولدات للعمارات الكبيرة وكشافات تستطيع أن تضيء لساعات بعد شحنها طويلا في وجود التيار وهكذا وينشغل المجتمع اكثر بالأمن والأمان لأن الشوارع المظلمة تصبح مصدر رعب للاسر ومصدر خوف على البنات والاولاد في كل ذهاب واياب ومن اجل ذلك كله انشغل التجار والمستوردون بتلبية الطلب والحفز على شراء بدائل بعينها ونقلت الصحافة كل ذلك وما زالت تتناقله وتغطيه.
غير أن ما يلفت هو اجراء مقارنات بين زمن كانت تنقطع فيه الكهرباء منذ عقود مثل الفترة التي سبقت ولحقت هزيمة/ حرب 1967 وحرب 1973. كان هناك ما يجعل المجتمع يحتمل وكان الشعور بالمهانة من الهزيمة والرغبة في الثأر تملأ كل نفس وكل دار وفي سبيل رد الكرامة فان كل شيء يهون ولم يكن احد يتحدث عن اقتصاد ظلام او بحث عن بدائل فالناس كانت على استعداد لتحمل كل شيء من اجل تقريب يوم رد الارض والاعتبار للوطن وللشعب وللجيش المصري.
في الوقت الراهن ليس ثمة ما يطلق طاقة الناس على الاحتمال والتحمل والصبر.. الحافز لا يكون بالضرورة حالة حرب فقد يكون حالة ثقة عالية في قيادة او نظام سياسي او تفاعل مع حالة اجتماعية اخلاقية ووطنية او حالة تضحية بعاجل من اجل خير عميم آجل، وكل ذلك لا وجود له الآن فضلا عن ان الاجيال الجديدة ملولة بطبعها.
امتحان الظلام الذي ستشهده مصر في هذا الصيف امتحانا متعدد المستويات فهو سياسي واقتصادي اجتماعي وسيدخله اطراف متعددة.. سلطة عليا وحكومة ومجتمع و ربما دول خارجية تراقب فمن سينجح ومن سيخفق يا ترى وماذا سيترتب على النتيجة التي ستظهر؟. الله اعلم.
نقلا عن جريدة عمان