توقفت أنفاس أوروبا الاقتصادية وهي تتابع بخوف وقلق وهلع كبير تداعيات وضع العجز المالي الكبير الذي أصاب القطاع المصرفي تحديدا والاقتصادي عموما بجزيرة قبرص المتوسطية عضو الاتحاد الأوروبي؛ فهي أصبحت على شفا حفرة الإفلاس العظيم والانهيار الكامل بشكل مرعب ومتسارع، فلقد اتخذت الحكومة القبرصية المنتخبة حديثا إجراءات بنكية «وقائية» حددت فيها إمكانية سحب المبالغ من البنوك للمودعين، وقلصت ساعات العمل لها، وحصل بالتالي حالة من الارتباك والهلع الشعبي عندما بدأ الناس في حالة جمهرة كبيرة أمام مواقع البنوك المختلفة، وفي الوقت نفسه هجموا على المحال للتبضع من الغذاء ولتخزينه لإدراكهم وقناعتهم بأن الأزمة التي تمر بها قبرص ستكون مظلمة وطويلة للغاية بسبب انهيار البنوك القبرصية التي أقرضت الاقتصاد اليوناني وشركاته بشكل هائل، وطبعا مع الإفلاس الذي أصاب اليونان انتقلت العدوى لقبرص.
فاليونان هي الشريك الأهم والأكبر والأساسي لقبرص والامتداد الطبيعي لها. وكان الانهيار مؤلما ومدمرا على هذه الجزيرة الصغيرة. قبرص جزيرة قديمة جدا تناولتها الكتب التاريخية بالكثير من القصص والروايات والأساطير. تبني قبرص الكثير من الأوطان والحضارات والثقافات، فالحضارة الإغريقية تنسج حولها الكثير من الوقائع وتعتبرها موطن إلهة الجمال أفروديت وكذلك الحضارات البيزنطية والرومانية.
وفي العصر الحديث كانت قبرص تتموج بين السيطرة العثمانية واليونانية والبريطانية وذلك بحسب الحقب التاريخية المثالية التي مرت عليها والظروف السياسية التي عصفت بها وأدت إلى تقسيمها إلى جزأين إلى اليوم؛ جزء شمالي يخضع للسيطرة التركية، وجنوبي مستقل ولكنه يوناني الهوى بامتياز.
ولا يعترف بالجزء الشمالي إلا تركيا، وفشلت عبر الوقت الكثير من محاولات السلام والوحدة بين شقي الجزيرة،بل إن قبرص لم تسلم من الطموحات العربية وتحديدا الحزب القومي السوري الاجتماعي، وهو الحزب الذي أنشأه اللبناني أنطوان سعادة وكان يسعى لتأسيس وطن مكون من فلسطين وسوريا ولبنان والأردن وأجزاء من العراق وقبرص في مناطق «الهلال الخصيب ونجمته قبرص» كما كان شعار الحزب ليكون موطنا للشعب السوري.
وعبر الوقت تحولت قبرص إلى مركز غريب للعمليات المالية والتجارية «الخارجة عن السيطرة» وتحولت لملاذ مصرفي وضريبي آمن للشركات والأفراد، وحولتها إسرائيل إلى نقطة إعادة تصدير لبضائعها للعالم العربي، وشهدت أرضها معارك كثيرة بين الاستخبارات العربية والإسرائيلية، وتحولت إلى مقر للبنانيين خلال حربهم الأهلية وموقع لأعمال السوريين والفلسطينيين ونقطة جذب سياحية بامتياز، وقويت عملتها الجنيه القبرصي لتكون في فترة من الفترات أقوى من الجنيه الإسترليني العتيد نفسه، وكانت الجائزة والمكافأة الكبرى لأداء قبرص الاقتصادي وتفوقها السياحي والخدمي والمصرفي هو قبولها وانضمامها للسوق الأوروبية والاتحاد الأوروبي والعملة الأوروبية،وهي شهادة بأنها وصلت إلى أندية الكبار، ولكن هذه الدولة الصغيرة تسببت في إثارة القلق والهلع في أسواق وحكومات وعملات وبورصات أوروبا والعالم لمدة عشرة أيام لم تنته حتى أعلنت السوق الأوروبية في اللحظات الأخيرة عن خطة إنقاذ لقبرص بعشرة مليارات يورو، وتنفس العالم الاقتصادي الصعداء ولكن قبرص لن تعود كما كانت لفترة طويلة. قبرص مثال صارخ أن النار دوما ما تأتي من مستصغر الشرر، فلنكن حذرين جدا.
نقلا عن جريدة الشرق الاوسط