بعض دول الاتحاد الأوروبي تعرضت لأزمات مالية حادة مما دفع الاتحاد بقيادة ألمانيا، وبمشورة صندوق النقد الدولي، لتقديم الدعم المالي لهذه الدول وخاصة اليونان وإسبانيا وإيطاليا وإيرلندا، وتمت رحلات مكوكية واجتماعات مطولة لتقييم أوضاع هذه الدول وبذل كل الجهد الممكن لتحقيق هذه المساعدة ودفعها لتؤتي أكلها.
واستمر مسلسل الانهيارات المالية في أوروبا إذ تتعرض الآن قبرص لمشاكل مالية قد تقود لإفلاسها، وبالرغم من أن قبرص جزء من منظومة الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو إلا إن موقف الاتحاد وصندوق النقد الدولي كان مختلفاً هذه المرة وأتى بحلول قد تكون لها انعكاساتها السلبية على القطاع المصرفي والاستثماري في كل العالم.
وهذا الموقف الغريب يعزيه البعض لعلاقة قبرص بروسيا والاستثمارات والودائع الروسية الكبيرة جداً في هذه الجزيرة الصغيرة والاستثمارات المرتقبة في الغاز القبرصي المكتشف حديثاً. وهكذا تظهر بوادر النزاعات الصامتة بين هذه المجموعات وروسيا، لأسباب يعرفونها.
طلب الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي من قبرص فرض ضريبة على الودائع التي تزيد على 100 ألف يورو،وهذه الضريبة قد تصل الى 40% ونسب أخرى على الودائع في بعض البنوك، حتى يتم جمع مبلغ يعادل سبعة مليارات يورو وبعد جمع هذا المبلغ ستقوم دول الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو والصندوق بدفع مبلغ يعادل عشرة مليارات يورو لتتجنب الجزيرة الإفلاس.. وما أدراك ما إفلاس الدول؟
تكمن المشكلة في أن قرار فرض ضريبة على الودائع المصرفية، في حد ذاته، أمر غير مقبول بل لم يتم من قبل واذا تم فقطعا سيكون لهذا انعكاسات كبيرة ومضرة على القطاع المصرفي في كل المعمورة. ومن أبجديات آثار هذا القرار عدم وجود الأمان وانعدام الثقة في القطاع المصرفي الذي يعتبر حتى الآن من أهم ملاذات الاستثمار المالي. وإذا نظرنا لدول المنطقة مثلا نجد أن هذا الأمر يعنيها لما لها من ودائع كبيرة في العديد من البنوك العالمية. والمنطق يقول إذا تم سن ضرائب على هذه الودائع في قبرص اليوم فما يمنع من سنها غدا في أي مكان آخر ومهما كان آمنا، لأن الأمان انتهى. وماذا ستعمل بنوكنا اذا انتهى هذا الأمان وابتعد الناس بأموالهم عن البنوك.
ولنترك جانباً تلك الانعكاسات السلبية من النواحي المصرفية والمالية ولننظر في بعض الانعكاسات القانونية التي قد تنتج بسبب هذه التصرفات. والتساؤلات عديدة، فما هو مصير العقود المبرمة بين البنوك والمودعين خاصة وأن أساس العمل المصرفي يقوم على حماية المودعين، نعم حماية المودعين هو جوهر وعماد العمل المصرفي فإذا انفرط هذا الجوهر وانهار هذا العماد.. فهل تبقى للمهنة المصرفية قائمة؟ وماذا سيحدث للالتزامات القانونية التي دخل فيها المودعون استناداً على استثماراتهم في هذه الودائع؟ بالطبع فان قبرص ستصدر قوانين لتنفيذ سياسة الضريبة الجديدة على الودائع، فهل ستنطبق هذه القوانين بأثر رجعي لتغطية كل الودائع الموجودة حالياً في البنوك القبرصية أم ستسري أحكام القانون على الودائع الجديدة؟ وإذا نص القانون على سريانه اعتباراً من تاريخه على الودائع الجديدة، فهل سيكون هناك ودائع جديدة؟ وما مقدارها؟ وهل يتم تصنيف ما حدث من الناحية القانونية «فورس ماجير» أي تصنيفه كـ«قوة قاهرة» على عقد الوديعة المبرم بين الزبون والبنك؟ قد يكون هناك صعوبة في تصنيفه كقوة قاهرة لأن الأمر ليس فجائي لا يمكن مجابهته بل من المتوقع حدوثه خاصة بعد الانهيارات المالية والمصرفية التي تعرض لها العالم في السنوات الأخيرة، فالكل يجب أن يتوقع تعرضه للصعوبات المالية لدرجة الافلاس المالي، وأن يضع حساباته علي هذا الأساس..
ان فرض الضرائب على الودائع في البنوك القبرصية لا يقل عن مصادرة هذه الأموال ونزعها وتملكها دون وجه حق،وهذا لا يخالف القوانين المصرفية فقط بل يخالف قوانين الاستثمار التي تنص صراحة على حفظ الحقوق وعدم مصادرتها أو نزعها أو تملكها دون وجه حق وتعويض. وما يحدث في قبرص الآن يخالف هذه القوانين وكذلك يخالف الأعراف المصرفية السائدة.
اضافة لهذا، نشير الى أن الدساتير في كل دول العالم تتضمن العديد من المبادئ والحقوق الدستورية الثابتة،ومن أهم هذه الحقوق صيانة الملكية الفردية والحقوق الشخصية شاملة ما يملكه الفرد من أموال وأصول.
فكل هذه الحقوق مصانة بقوة الدستور، وعليه فاذا صدر قانون يهدم هذه الحقوق ويسلبها بدون مبرر قانوني وتعويض مقبول فان هذا القانون يخدش بل يخالف الدستور. فما هو مصير القانون الذي يخالف الدستور أبو القوانين؟ وهل يلجأ أصحاب الحقوق للمحاكم القبرصية أو محاكم الاتحاد الأوروبي؟ ونأمل حدوث هذا لنرى مردوده وأثره على المهنة المصرفية والحركة الاستثمارية.
والتاريخ وحده سيحدد لنا هل نسير على السابقة التي الغريبة اتخذها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي أم نسير على السابقة القضائية؟ اذا تم اللجوء للقضاء ونأمل ذلك...
نقلا عن جريدة عمان