لماذا تهتم الدول بتطوير أسواق رأس المال لديها؟ وهل كل الدول على اختلاف ظروفها بحاجة لمثل هذه الأسواق؛ يستوي في ذلك من يسجل عجزاً في موازينه العامة والخارجية سنوياً، ومن يحقق فوائض مالية ؟ ومن هي الفئات المقصودة بالتطوير، وما هي متطلبات عملية التطوير؟ هذه أسئلة من بين أسئلة أخرى ، كانت بانتظار الإجابة عليها في المؤتمر الذي انعقدت فعاليته في الدوحة في الأسبوع الماضي، بتنظيم من مصرف قطر المركزي، والأمانة العامة للتخطيط التنموي، وبمشاركة من صندوق النقد الدولي والبنوك المركزية وبعض المؤسسات المالية في من دول مجلس التعاون وبخاصة الإمارات وعمان.
بداية أشير إلى أن تعبير أسواق رأس المال يغطي عادة أسواق الأسهم والسندات وما في حكمها من صكوك وأوذنات، وهذه الأسواق قد تكون تحت مظلة واحدة تجمع الإثنين، وقد يكون كل منهما مستقلاً عن الآخر. وقد يكون أحدهما موجود ومتطور بالفعل، والآخر غير موجود أصلاً-وهذا هو حال السوق في قطر ودول مجلس التعاون- حيث تطورت في العقدين الأخيرين أسواق الأسهم وبورصاتها، في حين تخلفت أسواق السندات والصكوك عن الظهور، باستثناء ما عرفته دول المنطقة من إصدارات محلية للسندات والصكوك والأوذنات الحكومية، وهي إصدارات أشرفت عليها البنوك المركزية واقتصر الاشتراك فيها على البنوك والمؤسسات المالية.
وقد سعت دولة قطر إلى تطوير سوق رأس المال لديها بعد أن جعلت ذلك ضمن أحد أهدافها الاقتصادية التي رسمتها رؤية قطر 2030. ونلاحظ لذلك أن دولة قطر قد عملت-ولا تزال- على تطويع الظروف الملائمة لعملية التطوير بدءاً من إصدار الصكوك والسندات ثم الأوذنات بشكل منتظم، مروراً بتعديل اللوائح المنظمة لعملية الإدراج في بورصة قطر؛ بحيث باتت قابلة لعمليات تداول الأوذنات الحكومية كما هو الحال في تداولات الأسهم.
ورغم ذلك فإن عملية تطوير سوق رأس المال في قطر لا زالت في بداياتها، وأمامها الكثير لكي تصبح حقيقة واقعة. ذلك أن المقصود بالتطوير كما سعى إليه المؤتمر هو حث الشركات والمؤسسات الكبيرة مثل كيوتيل وبروة والكهرباء والماء وكافة البنوك وشركات التأمين وصناعات وناقلات وقطر غاز ورأس غاز وغيرها، على إصدار سندات بالريال القطري في السوق المحلي بدلاً من الذهاب إلى الأسواق العالمية لإصدار سندات أو صكوك بالدولار والعملات الأجنبية الأخرى. وأن يتم بعد ذلك تداول هذه السندات والصكوك التي تصدرها الشركات في بورصة قطر، بحيث يتم شراءها من جانب المستثمرين الذين لديهم فوائض مالية سواء كانوا قطريين أم أجانب. فإذا وصلنا إلى هذه المرحلة تكون سوق رأس المال قد تطورت وأصبحت أداة فاعلة في التطوير التنموي الذي تنشده رؤية قطر 2030.
ولكي تستطيع الشركات والمؤسسات القيام بإصدارات ناجحة في السوق المحلي فإن ذلك يتطلب توافر عدد من المقومات في مقدمتها توافر مؤسسة تصنيف محلية لتقييم الملاءات المالية على غرار ستاندرد آند بور وفيتش وغيرها التي تشتهر في الخارج. فلكي يٌقبل المستثمر على شراء أي سند أو صك لأي شركة في أي وقت، فإنه بحاجة إلى مؤسسة متخصصة تنظر في أوضاع الشركة المُصدرة وتعطيها درجة منشورة ومُعلنة على مدى سلامة ذلك الوضع؛ كأن تكون AA+ أو AA- أو ِB أو C وغيرها، وهي حروف تدل على مدى متانة الملاءة المالية للشركة وقدرتها على الوفاء بقيمة الصك أو السند عند الاستحقاق. وأهمية هذه الدرجة أنها تؤثر على سعر الورقة المالية عند تداولها في البورصة وعلى سعر الفائدة أو سعر المرابحة الذي تحمله الورقة. وغياب مثل هذه المؤسسة يجعل من الإتجار في هذه السندات والصكوك مجازفة مالية غير مأمونة العواقب.
ولكن لماذا تضطر الشركات إلى إصدار سندات أو صكوك محلية طالما باستطاعتها الاقتراض من البنوك المحلية بسهولة، أوطالما أن بإمكانها إصدار سندات بالدولار في أسواق خارجية. الحقيقة أن هذا الأمر يُعد من متطلبات الاستقرار المالي التي أفرزتها الأزمة المالية العالمية قبل سنوات، والتي ترتب عليها وضع ضوابط قوية على عمليات البنوك وعلى مراكزها تصنيفاتها المالية تُعرف بإسم قواعد بازل 3. ورغم أن تطبيق هذه القواعد الدولية لن يتم رسمياً قبل 6 سنوات، إلا أن التحضير له قد بدأ منذ أعوام. فالبنوك من جهتها راحت ترفع رؤوس أموالها حتى تحقق النسب المطلوبة منها كي تظل في المقدمة. ولكن ذلك لا يكفي ولا بد من تغيير نمط الائتمان الكبير الموجه للشركات قدر الإمكان من النمط التقليدي المعتمد على القروض المباشرة للمقترضين إلى السندات والصكوك، وبدلاً من إقراض كيوتيل أو بروة مثلاً مليار ريال ، تقوم البنوك بشراء إصدارات أو صكوك منهما بنفس القيمة. وبذلك تحصل كيوتيل أو بروة على المال اللازم بتكلفة أقل ولآجال ومدد أطول قد تصل إلى عشر سنوات أو أكثر، وفي الوقت ذاته يكون البنك في وضع أفضل حيث يتم تصنيف قيمة السندات والصكوك لديه على أنها استثمارات وليست قروض، كما يكون بإمكانه استرداد كل أو جزء من مشترياته منها بطرحها للبيع في البورصة دون انتظار لأمد الاستحقاق، وقد يحقق البنك من وراء البيع أرباحاً مالية إذا ما كان هناك إقبال على السندات والصكوك وارتفعت بالتالي أسعارها في فترة ما قبل الاستحقاق.
وبعد فإن الموضوع يحتاج إلى مقال آخر للإجابة على بقية الأسئلة التي طرحها المؤتمر، والتي لم يتسع لها المقام في هذا المقال، فغلى لقاء آخر بإذنه تعالى.