عرف السوريون بعشقهم للعمل الحر والمبادرة وبذل الجهد والعطاء. وخلال العقود الحديثة عرفناهم في منطقة الخليج تجاراً ورجال أعمال ومهنيين ولم نلاحظ بينهم الكثير من موظفي الحكومة العاديين، فتميزوا في مهنهم وحرفهم عن الكثير من أفراد الفئات الوافدة الأخرى. كذلك كنا نسمع من الأجيال السابقة، عن تعاملهم القديم مع أهل الشام وتناغم مصالحهم في أعمال التجارة والاستثمار العقاري وأنشطة المقاولات والمشاركات في الأعمال المهنية. فقد عرف التاريخ المعاصر لسورية الكثير من الشركات التي تأسست في القرن العشرين وعملت في قطاعات اقتصادية أساسية. كما أن مجموعات اقتصادية مهمة برزت في سورية مثل الشركة الخماسية التي تملكتها عائلات سورية عريقة، وقامت هذه المجموعات بالاستثمار في صناعة النسيج أو العقار في سورية ولبنان، ناهيك عن تعاملها بأنشطة الخدمات الحيوية.
ولم يتراجع دور القطاع الخاص فيها إلا بعد حركة التأميم وبعد قيام دولة الوحدة مع مصر. ولا شك في أن التوجه نحو نظام رأسمالية الدولة، في الاشتراكية العربية، قد عطل من دور القطاع الخاص السوري ودفع الكثير من الفعاليات إلى الهروب بأموالهم إلى لبنان وغيره من البلدان.
تمر سورية اليوم بفترة سياسية وأمنية عصيبة بعد الثورة التي بدأت منذ أواسط مارس ( آذار ) 2011 والتي هدفت إلى الإصلاح الديموقراطي، لكنها قوبلت بالقمع الدموي والمدمر من قبل النظام. وأدى هذا التعامل القمعي مع المطالب الشعبية المشروعة، إلى فرض عقوبات دولية مهمة عليها. كما نتج عن الأوضاع السياسية المأزومة وفقدان الأمن تعطل الأنشطة الأساسية مثل إنتاج النفط أو عمليات التصدير وتراجع الإنتاج الزراعي وتوقف تدفق الزوار والسياح، ناهيك عن تراجع تحويلات المقيمين في الخارج نظراً الى الحظر المفروض على القطاع المصرفي في دمشق... ولا شك في أن العمليات المسلحة والصدامات بين الجيش النظامي وعناصر المعارضة المسلحة أدت إلى تدمير الكثير من الأحياء السكنية والمواقع الإنتاجية والمزارع بما يعني خسائر اقتصادية قد تقدر ببلايين الدولارات ... ولا ريب في أن إستمرار الصراع لأمد طويل سيزيد معاناة المدنيين وحجم الخسائر البشرية والمادية.
بلغ الناتج المحلي الإجمالي لسورية عام 2011 نحو 65 بليون دولار، ويعتبر الاقتصاد السوري من الاقتصادات التي لا تزال محكومة مركزياً وتتسم بهيمنة طاغية للدولة. وكما سبق وذكرنا فإن هذا الاقتصاد يعتبر متنوعاً حيث هناك صناعات تحويلية وزراعة وإنتاج نفطي محدود وسياحة معقولة. لكن المحاولات التي بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي، وفي عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، لتطوير الاقتصاد وإنجاز إصلاحات هيكلية لم توفق بشكل مفيد. وظلت عمليات التحول من الملكية العامة إلى ملكية القطاع الخاص غير واضحة وتفتقر إلى الشفافية وتمت لمصلحة فئات موالية للنظام الحاكم وبأشكال متعددة. كما إن الجهاز البيروقراطي إتسم بالفساد وعدم الفعالية، ما زاد من شكوك الكثير من رجال الأعمال السوريين والأجانب وعطل تدفقات الاستثمار المباشر.
لقد قدرت حصيلة الصادرات السورية خلال عام 2011 بـ 2.7 بليون دولار، وتمثلت بالنفط الخام والمعادن والفواكة والخضار والمنتوجات القطنية واللحوم والماشية الحية والقمح. وكانت البلدان الأساسية المستوردة هي العراق ولبنان والسعودية وألمانيا وإيطاليا. لكن الواردات كانت تبلغ 13.8 بليون دولار، وتمثلت بالمعدات الصناعية ووسائط النقل ومحطات توليد الطاقة والمواد الغذائية والكيماوية والبلاستيكية. ومن أهم الدول المصدرة إلى سورية، الصين والسعودية وتركيا ودولة الإمارات وإيطاليا وكوريا الجنوبية وألمانيا وروسيا ولبنان ومصر.
هل يمكن أن يتعافى الاقتصاد السوري بعد سقوط النظام وقيام مؤسسات ديموقراطية، وكيف يمكن تمويل عملية إعادة البناء وتطوير أداء القطاعات المختلفة ؟ على المعارضة بكل أطيافها أن تعي أهميتها، حيث أن الشعب السوري واجه معاناة معيشية طويلة وإزدادت الآن في ظل الصراع المسلح. وبالتالي فلا بد من طرح إستراتيجية اقتصادية تؤدي إلى تحسين مستويات المعيشة وتعزز القدرة على إيجاد وظائف. لكن في ظل الإمكانات المحدودة يجب التوجه إلى المؤسسات الدولية والدول العربية والأجنبية للحصول على دعم مالي وتمويلات ميسرة. ولن يتمكن السوريون من تحقيق إيرادات سيادية مناسبة تعفيهم من اللجوء إلى الآخرين إلا بعد تطور أداء القطاعات الحيوية مثل الصناعات التحويلية والزراعة والسياحة وتحسين القدرة على التصدير السلعي.
لا شك في أن هذه الأمور تتطلب إصلاحات قانونية ومؤسسية وتوظيف الموارد على إسس منهجية ملائمة ، وكما هو معلوم فإن سورية تملك موارد مهمة يمكن أن تستغل على أسس اقتصادية مناسبة، ومن أهم هذه الموارد طبقة رجال الأعمال والمهنيين، اذ لا بد أن تتاح الفرص المؤاتية بموجب تشريعات وأنظمة مناسبة حتى يمكن طرح المبادرات الاقتصادية وتوظيف رؤوس الأموال بكفاءة وبشروط عادلة. يضاف إلى ذلك، أن الانفتاح الاقتصادي الحقيقي سيجعل من سورية بلداً جاذباً للاستثمار.