التكامل الثلاثي في سوريا: من أزمة الطاقة إلى مستقبل مستدام لمنظومتي الطاقة والنقل

18/11/2025 1
د. إبراهيم بن محمود بابللي

تحجُبُ انقطاعاتُ الكهرباء الطويلة في سوريا – أو تكاد – حقيقةً أعمق: لقد تجاوزت الأزمةُ كونها مشكلةً تقنيةً اقتصادية فأصبحت تحدياً يمسّ كل مناحي الحياة. فهو يعيق عجلة الإعمار والاستثمار، وهذا له أثر بيّن على تردد النازحين في العودة، ويهدد هذا التحدي أيضا توفير الخدمات الأساسية للقطاعات الصحية والتعليمية، بل إن هذا التحدي يمسّ أساسيات العيش الكريم. ولقد أظهرت السنون العجاف التي مرّت بسوريا عجز النموذج التقليدي، القائم على التوليد المركزي وشبكات النقل الممتدة، عن الوفاء بمتطلبات التنمية الإنسانية، فأصبح الحفاظ عليه عبئاً ثقيلاً على كاهل الاقتصاد، فناهيك عن التوسعة التقليدية لمنظومة التوليد وشبكة النقل والتوزيع.

ولقد أظهرت الحلول المتفرقة والفردية قدرة الإنسان السوري على التكيّف وإيجاد الحلول لتوفير الحد الأدنى من الطاقة التي يحتاجها لحياته اليومية. ولكن الوضع القائم لمنظومة الطاقة السورية يظهر بوضوح استحالة إعادة الإعمار بذات الأدوات التي أوصلتنا إلى هذا الوضع. لكن، من رَحِم هذه المعاناة تولد فرصة تاريخية لتجاوز الحلول التقليدية البطيئة المكلفة وتبَنّي نموذج طاقة مستقبلي لا يكتفي بترميم الواقع، بل يعيد هندسته من الأساس. إنه نهج يرى في التحدي فرصةً، وفي الدمار أرضيةً خصبةً للبناء بشكل أكثر ذكاءً واستدامة. ولكن هذا يتطلب رؤيةً تحوليةً تقدم حلاً متكاملاً وجذرياً لأزمة الطاقة.

تقليدياً، يخطّط الخبراء والمستشارون منظومة التوليد بالنظر إلى الطلب القائم على الكهرباء والمتوقع مستقبلاً، ويخططون لمنظومة النقل والتوزيع بالنظر إلى توزّع الطلب على التجمعات السكنية والصناعية والاقتصادية وبُعدِها عن محطات التوليد المركزية، ثم تطرح المشاريع، فتُبنى المحطات، وتُركّب الأبراج والمحوّلات، وتمدّد الكوابل والأسلاك. هذا هو الحل التقليدي الذي يسعى له الجميع، ولكن هل هذا الحل هو الأنسب لسوريا حالياً؟

هل ما تزال سوريا تحتاج لمحطات توليد مركزية تبعد مئات الكيلومترات عن مراكز الاستهلاك؟ وهل ستبقى سوريا معتمدة على استيراد الوقود لتشغيل منظومة التوليد الحالية والمستقبلية، وكذلك منظومة النقل – بشقّيها الخفيف والثقيل؟ هل هناك حل لا يعتمد على منظومة التوليد والنقل والتوزيع التقليدية، فيجنّب الاقتصاد السوري تكلفة الاستثمار في بناء شبكة نقل وتوزيع قد لا تكون – في حقيقة الأمر – بحاجة لها؟

إن الحل يكمُن في أمرين: أولهما الإيمان بأن تدمير البنية التحتية الذي حصل في سوريا، بما في ذلك منظومة الطاقة، هو في الحقيقة خيرٌ، وإن كان ظاهره الشر. وثانيهما التحول من التخطيط القطاعي إلى التخطيط التكاملي، فلا يُنظر لقطاع الكهرباء بمعزلٍ ويخطط له، بل تُعاد هندسة منظومة الطاقة والصناعة والنقل ويخطط لتطويرها تكاملياً.

لقد أسميت المقترح الذي سألخصه في هذه السلسلة من المقالات "التكامل الثلاثي"، وهو يقوم على:

1. البدء بالمناطق المدمّرة: إعادة إعمار كل الأحياء والقرى والمدن المدمّرة بجعلها "محطة طاقة" مستقلة، تنتج حاجتها من الكهرباء عبر الطاقة الشمسية، مما يقلل الاعتماد على الشبكة المركزية تدريجياً. وتكون الأولوية في هذا النموذج للقطاع السكني ليكون المستفيد الأول من هذا التحوّل الطاقي، مستهدفين توفير بين 60% إلى 80% من احتياجاته الكهربائية، مما يعني إنارة المنازل وتشغيل المستلزمات الأساسية بشكل شبه دائم. وهذا سيمكّن الدولة – تدريجيا – من التركيز على ربط التوليد المركزي بالاستهلاك الصناعي، وهذا من المتطلبات الرئيسة للاستثمار الصناعي.

2. جُزُر (جمع جزيرة) الطاقة: التحول من شبكة نقل وتوزيع وطنية إلى شبكات توزيع محلّية تربط الأحياء والقرى القريبة (جُزُر الطاقة) لخلق تكامل بين العرض والطلب. إن تكامل المحطات المستقلة المتجاورة مع بعضها البعض عبر شبكات محليّة، يقلل كثيراً من الحاجة لتخزين الطاقة (الضرورية مع الطاقة الشمسية)، وتنتفي معه الحاجة لشبكة النقل الوطنية، إلى حدّ كبير.

3. كهربة النقل الخفيف: تستطيع الدولة، من خلال قرار سيادي، تحويل النقل الخفيف في سوريا إلى السيارات والحافلات الكهربائية، تبعاً لخطة زمنية واضحة وطموحة. إن استيراد الوقود – نفطاً خاماً لتكريره، أو منتجات مكرّرة – يشكل عبئاً كبيراً على الاقتصاد السوري، وسيتزايد هذا العبء باستمرار في المنظور القريب. ولن تكون منظومة النقل الخفيف الكهربائية مجرد وسائلَ نقلٍ صديقة للبيئة، بل ستتحول إلى "بنوك طاقة متنقلة" تُشحن بالطاقة الشمسية فتُغذّي المنازل بعد الغروب عندما لا تكون السيارات أو الحافلات تستخدم، لحل معضلة تخزين الطاقة الشمسية – أو جزءٍ منها – بأسلوب اقتصادي مبتكر.

هذا المقترح صعب التطبيق في الدول التي تنتشر فيها شبكات التوليد والنقل والتوزيع التي تفي بجّل الطلب، لأنه يتطلب إحلال منظومة جديدة مكان منظومة فاعلة ومجدية اقتصادياً. ولكن لسوريا، التي دُمّر جزء كبير من بنيتها التحتية، هو الحل الأمثل اقتصاديًا والأسرع تنفيذًا. ويستطيع هذا الحل – بتوفيق من الله ثم بتبنّي الجهات المعنية في سوريا – إحداث نقلة نوعية ملموسة في حياة المواطن السوري خلال سنوات قليلة.

سنشرح في هذه السلسلة كيف يعمل هذا الحل، وكيف يمكن للسيارات أن تنير البيوت، كيف تصبح الأحياء قادرة على إنتاج الطاقة التي تحتاجها، ثم تبيع ما يفيض عن حاجتها. والأهم من ذلك: كيف يمكن لسوريا أن تتحول من دولة تعاني من أزمة طاقة إلى نموذج إقليمي وعالميّ في الطاقة الذكية والمستدامة.

 

خاص_الفابيتا