ذكرنا في المقالة السابقة أنه ينبغي على الـمُخطّط النظر للقطاعات الاقتصادية نظرة تكاملية، لا نظرة تقليدية تُخطِّط لكل قطاع بشكل مستقل، ولكن الواقع غير ذلك.
الـمُخطّط ينطلق عادة مما تعلمه ومارسه، فيخطط ضمن إطارٍ موجود وواقع قائم. وإن رغب إحداث تغيير أو تطوير، كان منظوره محدوداً بما تعارفت الأمم ومستشاروها وخبراؤها على تغييره وتطويره. واقع الحال يكادُ يكون ملزِماً للـمُخطِّط بألا تكون خططه جريئة وتحوّلية، إلا ما ندر. التخطيط التكاملي الذي ينتج عنه تحول اقتصاديّ يتطلب فكراً قيادياً ونظرة مستقبلية غير محدودة بالواقع القائم والعُرف المتّبع، ولكنه يستلزم – في المقام الأول – قناعة متخذ القرار بأهمية التخطيط التكامليّ، لأنه يُبنى على تكاملٍ وتعاونٍ وتشاركٍ بين عدد من القطاعات الاقتصادية.
كما ذكرنا، تُعالَجُ تحديات الطاقة والنقل غالباً في إطارين منفصلين، لأن النظرة التقليدية لكليهما تجعلهما بعيدين جداً عن إمكانية حدوث تكامل بينهما. قطاع الطاقة يستخدم الوقود لتوليد الكهرباء، ويواجه تحدياتٍ خاصة به، أما قطاع النقل فيستهلك الوقود لنقل الإنسان والبضاعة، ويواجه تحدياتٍ خاصة به أيضا. القاسم المشترك بين القطاعين هو كثافة استهلاكهما للوقود. هذه هي النظرة التقليدية.
النظرة التكاملية تدمج هذين القطاعين في حلّ واحد متكامل. فلا تكون السيارة – أو الحافلة – مجرد وسيلة نقل تستهلك وقوداً، بل تتحول إلى حلٍّ مرِنٍ لمشكلة تخزين الطاقة الشمسية، فتسهم وسائل النقل الكهربائية الخفيفة في حل مشكلة تخزين الكهرباء الشمسية للمنازل. وكلما زاد عدد السيارات، زادت نسبة المنازل التي تعتمد عليها في تأمين الكهرباء مساءً. وفي المقابل، تستفيد هذه السيارات من كهرباء رخيصة ونظيفة تُنتج محلياً من الطاقة الشمسية. ومع انتشار تطبيق هذا النموذج ترتفع نسبة المنازل التي تستخدم الطاقة الشمسية – مباشرة في النهار، ومن السيارات الكهربائية بعد الغروب – فيؤدي إلى انخفاض الطلب السكني على مصادر الكهرباء التقليدية، فيجعلها متوفرة بازدياد للاستخدام الصناعي. وكلما زادت نسبة المنازل الشمسية والسيارات الكهربائية التي تُشحن بالطاقة الشمسية، نقص الطلب على الوقود السائل (للسيارات ومحطات التوليد البخارية) والوقود الغاز (لمحطات التوليد الغازية).
ينتُجُ عن هذه المنظومة المتكاملة دائرة اقتصادية ونفعية متكاملة، تنطلق من جُزُر الطاقة السكنية في المدن والأرياف، لتولّد الكهرباء للاستهلاك السكني وشحن السيارات الكهربائية، لتشمل منظومة النقل الخفيف الكهربائية التي تُصبِحُ مستفيدة من جُزُر الطاقة ومفيدة لها، وتمتد إلى القطاع الصناعي بتقليل الطلب على الكهرباء المستخدمة في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، وتنتهي بالأثر الاقتصادي الإيجابي في تقليص حجم وتكلفة الوقود المستورد، بالإضافة إلى تحسين الأثر البيئي لمنظومتي الطاقة والنقل.
وسنذكر سوابق عالمية لإعادة البناء من رَحِم الدمار ولمبادرات محلّية لتكامل منظومتي الطاقة والنقل، للتأكيد على أن ما نقترحُه ممكِنٌ، بل سبقت تجربته، وإن كان السياق مختلفاً بعض الشيء.
كانت كثيرة من حالات النهوض مبنية على أنقاض الكوارث، ويقدّم لنا التاريخ نماذج مُلهمة لتحويل الدمار إلى فرصة للبناء بطريقة أكثر ذكاءً:
• كوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية: لم تكتفِ "المعجزة الاقتصادية" الكورية بإعادة بناء ما دُمّر فقط، بل استثمرت في تحديث صناعتها وتقنياتها بشكل جذري، فأعادت بناء مصانعها بمعدات وأفكار أحدث، مما منحها لاحقاً ميزة تنافسية عالمية.
• رواندا بعد الإبادة الجماعية: حولت رواندا نفسها من دولة مدمرة اجتماعياً واقتصادياً إلى واحدة من أنظف وأكثر دول أفريقيا أماناً واعتماداً على التقنية، من خلال القفز على مراحل تنموية تقليدية، والاستثمار بقوة في البنية التحتية الرقمية والخدمات الإلكترونية. هذا يشبه إلى حد كبير الفرصة المتاحة لسوريا للقفز مباشرة إلى نموذج طاقة لامركزي حديث.
أما نماذج التكامل بين القطاعات – بالطريقة التي نقترحها – فقد طُبّقت في عدد من الدول بنجاح، مُحوّلة فكرة تكامل الطاقة والنقل إلى حقيقة ملموسة، مثل:
• الدنمارك وتقنية "من المركبة إلى الشبكة" (V2G): تُعد الدنمارك رائدة عالمياً في هذا المجال، حيث تُشحن بطاريات السيارات الكهربائية عندما يكون هناك فائض في طاقة الرياح، لتعيد بيع الكهرباء إلى الشبكة الوطنية في أوقات الذروة. هذا لا يحقق التوازن للشبكة فحسب، بل يوفر دخلاً إضافياً للمواطنين. ومشروع "Park & Ride" في كوبنهاغن خير دليل، حيث تُستخدم بطاريات السيارات المتوقفة لدعم استقرار الشبكة المحلية.
• اليابان و"المجتمعات الذكية": بعد حادث فوكوشيما عام 2011م، بدأت اليابان التفكير في أمنها الطاقي وتبنت مفهوم "المجتمعات الذكية". في هذه المجتمعات، يحدث تكامل كامل بين توليد الطاقة المتجددة، وأنظمة التخزين الثابتة، والمركبات الكهربائية التي تعمل وحدات تخزين متنقلة أثناء الطوارئ أو فترات الذروة. مدينة فوجيساوا (Fujisawa SST)، التي طوّرتها شركة باناسونيك على موقع مصنع سابق، مثال حيّ لتكامل منظومتي الطاقة والنقل، يضمن استمرارية الطاقة حتى مع انقطاع الشبكة الوطنية.
• كاليفورنيا و"جُزُر الطاقة": تواجه كاليفورنيا تهديداً متكرراً بانقطاع الكهرباء بسبب حرائق الغابات، فاستُثمِرَ في تطوير جُزُرٍ للطاقة متصلة بشبكات صغيرة مرنة، تجمع بين الألواح الشمسية، وبطاريات التخزين الثابتة، والسيارات الكهربائية المزودة بتقنية "من المركبة إلى المنزل" (V2H). نتج عن ذلك أنه عند انقطاع الكهرباء من الشبكة الوطنية، تستطيع أحياء كاملة ومرافق حيوية، بل مدن صغيرة مثل بونيتا، الاستمرار في العمل باستقلالية تامة.
تثبت لنا النماذج العالمية أن تحويلَ الدمار إلى فرصة للبناء الذكي نهجٌ عمليٌ قابل للتطبيق، وسبق اتباعه بناجح. كما أن تكامل قطاعي الطاقة والنقل لم يعد مجرد نظرية، بل أصبح توجهاً عالمياً تتبناه عدة دولة صناعية، ولكن ما يزال على نطاق ضيّق. إن الرؤية والإرادة هما المفتاح. وتجد سوريا نفسها أمام فرصة بناء مستقبل مستدام لقطاع الطاقة، ينطلق من حيث انتهى الآخرون.
سوريا – في حاجتها الملحة لإعادة البناء – قادرة على تطبيق هذا النموذج المتكامل، بالبدء تدريجياً من القرى والأرياف والأحياء التي دُمّرت، إلى المدن ثم على المستوى الوطني. هناك فرصة ذهبية لتحويل أحد أكبر التحديات – أزمة الطاقة – التي تواجهها سوريا إلى محرك لإعادة الإعمار والتحول نحو اقتصاد أخضر ومستقبل مستدام. الموارد و الأفكار مهمّة، ولكن الرؤية السياسية الواضحة والإرادة الجريئة لتبني حلولاً غير تقليدية، هي الأهم لوضع سوريا على خريطة مستقبل الطاقة العالمي.
وسنشرح في المقالات التالية، باختصار، كيف يمكن تطبيق مقترح التكامل بين قطاعي الطاقة والنقل.
خاص_الفابيتا

