في بيئات العمل المهنية ودور الخبرة، ومن بعدها في القطاع الخاص، يكون للرأي والإبداع مساحة أكبر منها في بيئات العمل الأقل تنظيما أو المنغلقة. فهناك يحصل خلط بين الرأي والقرار الإداري. وعندما يُطلب الرأي في مسألة، يبحث البعض عن توجه الإدارة العليا (وبالتحديد) صاحب القرار، ليسانده وليجعل منه نبراس رأيه الشخصي. ويسعى جهده ليجد له المبررات والمؤيدات.. رغبة في رضا صاحب القرار! وهؤلاء (مع الأسف) يجدون لهم القربى، ويحضون بالمودة في كثير من الأحيان. لكن لهذا أثره السلبي على البيئة الإدارية وتطور وتنمية الدول والشعوب والاقتصادات! ولعل منبع هذا الخلط أن البعض يغفل أن صاحب القرار يستطيع أن يتخذ قراره بناء على قناعاته، دون استشارة.
وتظل الآراء التابعة وغير المستقلة لا تضيف للموضوع شيئا ذا قيمة! لأنها لا تعدو مجرد تأييد لما سبق طرحه من مرئيات. وهذا كله يختلف عن القرار، فالقرار يجب أن يُقيض له من يصدره باسمه ليكون قادرا على تحمل تبعاته. أما الرأي، فلا يعدو نتاجا فكريا في ظل معطيات تعرض بصياغة وأسلوب ووقت معين، ويمكن لصاحب هذا القرار أن يمتنع عن أن يبديه أو يبديه بتحفظ وله أن يبديه ثم يعدل عنه أو يعدله، إذا وجد ما يبرر ذلك.. ويبقى الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.
والرأي والقرار الإداري في النظم البيروقراطية يختلف عنه في بيئات العمل المهنية والمتطورة. وليست البيروقراطية حكرا على القطاع الحكومي، لكنها الأنظمة التي تعمل بفكر غير مهني أو يتصف بالتوجيهات التي تصدر من فكر واحد، لينفذها الجميع دون معارضة. لتجد فيها الجهاز بأكمله يعمل طبقا لمرئيات وبعقلية وقناعات شخص الرئيس. وتهمش فيها آراء الآخرين ويفقد بهذا الجهاز روح المشاركة في الرأي، وتسود روح مصادرة العقول وحريات الرأي الجماعي ويبقى الجهاز (كما يقال) يتنفس برئة واحدة، ويفكر بعقلية شخص واحد، فرئيس الجهاز هو العقل الوحيد الذي يفكر، ويقرر (One man show)، والجميع من حوله مجرد منفذين ومؤيدين لتوجيهاته وقراراته.. ومبررين ومرقعين لسقطاته.
ولا ننسى أن النفس البشرية (بطبيعتها) جبلت على الارتياح لمن يوافقها الرأي بعكس من يخالفها. لأن المخالف يبرر مخالفته بإبراز عيوب الآخرين بطريق مباشر أو غير مباشر! والناس لا ترتاح لمن ينتقدها ويبرز عيوبها. يقول الفيلسوف سقراط: «إن الذين يمدحوننا بما ليس فينا ندعوهم بالمؤدبين، وإن الذين ينتقدوننا بما فينا ندعوهم بقليلي الأدب».
هذا، وإن كان الممدوح (في كثير من الأحيان) يعلم بكذب المادح، لكنه لا يقاوم هذا الارتياح. كما أنه يعلم بمصداقية المنتقد، لكنه لا يستطيع مقاومة رغبة نفسه التي تكره النقد والمنتقدين! وقليلون هم أصحاب القرار الذين يتخلصون من هذا الميل النفسي الطبيعي.
وعليه، فإن المطلوب من أصحاب القرار إدراك أهمية الرأي الآخر وتحمل وطأته وأصحابه. والتخلص من هوى النفس (الأمارة بالسوء) حتى نضمن مشاركة الجميع، ولنفرق بين الرأي واتخاذ القرار.