عديد منا عاد للتو من إجازته الصيفية. وخلال الإجازة (وكما هو الحال كل عام) تتراكم فواتير بطاقات الائتمان ليُصعق بها أصحابها عند عودتهم. وفي هذه السنة يضاف إلى ذلك مناسبة بدء رمضان حيث تتراكم مصروفات السفر مع مصروفات (مقاضي) رمضان وحوائجه، ثم تليها مصروفات العيد وهداياه. فما ينتهي بنا الحال حتى نكون قد راكمنا على أنفسنا من الديون ما تتأرق له المضاجع، فنعد أنفسنا بأن: «هذه آخر مرة أرهق فيها نفسي بالديون». ولكن ما نلبث أن نعيد الكرة من جديد.
ما العمل إذاً؟ وهل هذا يعني أن الاقتراض خطر محدق ينبغي علينا أن نحذر منه في كل الأحوال؟
الحقيقة أن الاقتراض هو وسيلة ممتازة لإعطاء الفرد قدرة مالية أكبر من القدرة التي يملكها بالفعل. فهي بمثابة (الرافعة) التي تضاعف القوة وبالتالي تسمح لنا أن نرفع أحمالاً أكبر مما نستطيع بمفردنا (بل إن الكثير من أهل المال يشيرون إلى مقدار الاستدانة بمصطلح «الرافعة المالية»). بل يمكن تشبيه الاقتراض بـ (السلاح النووي). فهو سلاح جبار لإزالة العقبات الطارئة ولتكوين الثروة بسرعة، ولكنه أيضاً أداة فتاكة إذا ما أسيء استخدامها.
ومن هذا المنطلق ينبغي تقسيم الاقتراض إلى ثلاثة أنواع:
أولاً: الاقتراض لأجل الاستهلاك. وهذا يشمل الاقتراض لأي مصاريف متكررة بطبعها (كالتسوق أو الترفيه) ولو كانت لا تتكرر بشكل شهري (كشراء جوال، أو إيجار المنزل، أو أقساط المدرسة، أو الإجازات...إلخ). والقاعدة العامة أن الاقتراض لهذه الأغراض ضار في الغالب ولا منفعة منه. والسبب في ذلك أن القروض الاستهلاكية عادة ما تفرض رسوماً عالية، كما أن الصرف من مال لا تملكه يشجعك على الاستهلاك ويعوّدك على العيش بمستوى أعلى مما تستطيع (ولو مؤقتاً) ما يؤدي بك في النهاية إلى أن تغرق تحت جبل من الديون. وأسوأ صور ذلك هو الاقتراض باستخدام بطاقات الائتمان، التي عادة ما تفرض رسوما وأسعار فائدة عالية جداً قد تصل إلى 30 في المائة سنوياً في بعض الأحيان. لذا فالأولوية الكبرى لكل فرد ينبغي أن تكون تسديد كل الديون الاستهلاكية ومستحقات شركات التقسيط وديون بطاقات الائتمان ذات الفائدة المرتفعة قبل أي أولوية مالية أخرى. كما ينبغي على المرء أن يعوّد نفسه دائماً على الادخار للشيء أولاً ومن ثم الصرف عليه، ما يوفر عليه تكلفة (وهمّ) الاقتراض.
ثانياً: الاقتراض لأجل المصاريف الكبيرة في حياة المرء. على الرغم من أن القاعدة العامة أن على المرء أن يدخر أولاً قبل أن يصرف، إلا أن هناك عديدا من المصروفات النادرة في حياة المرء (كالتعليم والزواج وشراء مسكن) والتي يصعب على الإنسان تأجيلها، خصوصاً أن الكثير منها يحصل عادة في مقتبل العمر. هذه المصروفات لا بأس من الاقتراض لها على افتراض أن المرء سيتحمل هذه النفقة مرة واحدة في حياته، فإن كان لا يملك قيمتها اليوم يمكنه الاستدانة لها وردّ الدين من دخله المستقبلي. والمسألة تكون أكثر قبولاً أيضاً إذا أمكن تكييفها على أنها استثمار (كالمسكن أو التعليم اللذين يؤمل أن يسهما في بناء أصل ثابت أو تحقيق دخل أفضل في المستقبل)، وذلك كما سنتطرق له في النقطة الأخيرة. ولكن من هذا المنطلق لا يمكن اعتبار الإيجار مجالاً مقبولاً للاقتراض.
ثالثاً: الاقتراض من أجل الاستثمار. وفي هذا الصدد لا شك أن الاقتراض وسيلة ممتازة للادخار الإجباري ولتحقيق عائد لمن لا يملك مدخرات، أو لمضاعفة العائد على استثماراتك القائمة عن طريق مضاعفة المبالغ المستثمرة فيها. وقد سمعناً كثيراً عن ناس بدءوا بلا شيء سوى قرض، فاستثمروا مبلغه مما حقق لهم الأرباح وأسهم في بناء ثروة كبيرة لهم. ولكن من الضروري التنبه هنا لمسألتين: (1) الاقتراض من أجل الاستثمار لا يكون مجدياً إذا كان العائد أو الرسوم على القرض أعلى من العائد المتوقع على الاستثمار، ومن باب التبسيط يمكن القول إن الاقتراض بأي سعر يزيد على 10 في المائة سنوياً يجعل القرض غير مجد لغرض الاستثمار (وعندما نشير لسعر الإقراض في هذا المقال فإننا نتكلم عن الفائدة أو الأرباح التناقصية التي تعد المقياس الدقيق لتكلفة القرض، وليس عن الفائدة الثابتة أو غير التناقصية التي دأبت معظم البنوك على الإشارة إليها وتسويقها، نظراً لعدم دقتها إذ إنها دائماً تُظهر السعر على أنه أقل من الواقع. وكقاعدة عامة، ومن باب التقريب فإن فائدة ثابتة بمقدار 5 في المائة سنوياً تعادل فائدة تناقصية بنحو 10 في المائة، أي بمقدار الضعف تقريباً). (2) الاقتراض لأجل الاستثمار يرفع من معدل المخاطرة التي يتحملها المستثمر بشكل كبير، بل إنه يعرضه لمخاطر الإفلاس إذا ما تحركت الأسواق بشكل كبير ولم يكن لديه من المبالغ الأخرى ما يكفي للوفاء بقرضه. وتكاد تكون معظم حالات إفلاس أصحاب الثروات الضخمة تعود لاستخدامهم القروض بهدف مضاعفة العوائد على استثماراتهم، فإذا انخفضت قيمة تلك الاستثمارات بشكل كبير تتم تصفية الاستثمار من أجل حفظ حق المقرض، ولكن بعد أن يكون معظم رأس المال المستثمر قد تآكل. ومعاناة معن الصانع والقصيبي وغيرهما ما هي إلا فصول في قصة الديون الاستثمارية وخطرها. بل إن أحد أسباب نجاح الاستثمارات العقارية في المنطقة عبر السنوات هو أن مستثمري القطاع العقاري في المنطقة كانوا في العادة رساميلهم أموالهم فقط دون أن يُمعنوا في الاقتراض، ما مكّنهم من الإمساك باستثماراتهم حتى يتحسن سعرها دون أن يفرض عليهم بيعها في أي وقت. أما في عديد من الدول الأخرى التي توسعت في الإقراض مقابل الاستثمارات والمضاربات العقارية، وآخرها ما حصل في دبي، فإنها كانت أكثر عرضة لانهيار الأسعار.
**
من هذا العرض الموجز لعالم الاقتراض، لنا التوصيات التالية للمستثمرين الأفراد:
* إن كانت لديك أي ديون استهلاكية، أو على بطاقات الائتمان، فأولويتك الكبرى أن تسدّدها الآن! وإن لم يكن بإمكانك تسديد دين بطاقة الائتمان حالاً، فعليك أن تأخذ قرضاً لتسديدها، لأن تكلفة القرض عادة تكون أقل بكثير من تكلفة ديون بطاقة الائتمان.
* لا تصرف على أي شيء قبل أن تدّخر له أولاً، وإن كان لديك بطاقة ائتمان استخدمها للحالات الطارئة فقط (وللمعلومية فإن شراء جوال جديد لا يعتبر حالة طارئة).
* في المقابل لا تتحرج من الاقتراض لأجل الأحداث الكبيرة في حياتك (كالزواج أو شراء منزل أو السعي للتعليم). بل إن ذلك قد يكون محبذاً في كثير من الأحوال لأن الفائدة المجنية منه عادة ما تكون أعلى من تكلفة القرض. ولكن احرص دائماً على المفاضلة بين الجهات المختلفة للحصول على أقل سعر (ولا تعتمد أبداً على ديون بطاقات الائتمان أو القروض الاستهلاكية عالية التكلفة لهذا الغرض).
* لا تقترض من أجل الاستثمار إلا إذا كان عائدك المتوقع من الاستثمار أعلى من تكلفة القرض.
* لا تقترض من أجل الاستثمار إلا إذا كان لديك مدخرات ودخل كاف للوفاء بقيمة القرض حتى ولو خسرت قيمة الاستثمار بأكمله (لا سمح الله). فإذا كنت تأمل أن تسدد قيمة قرضك من الأرباح المتحققة من استثماره، ولكن قيمة استثماراتك انخفضت (وهو أمر شائع) فستجد نفسك مضطراً للتسديد من مواردك الشخصية. وإن لم تكن مستعداً لذلك فستعرض نفسك لضائقة مالية لا تُحمد عقباها.