بين ضفتي الأطلسي تكمن المعضلة و يكمن الحل .. و العالم بأسره ينتظر سادة البنوك المركزية الكبرى في أوروبا و أمريكا و ما يصدر من تصريحات أو تلميحات تحدد وجهة الأسواق التالية.
إن الوقت يداهم صناع القرار بينما المداولات و الاجتماعات المستمرة لا تلبث إلا ان تزيد من ضبابية المشهد في ساحة الاسواق العالمية التي تنتظر مصيرها المحتوم بين آمال المتفائلين و حذر المتشائمين. وتبقى تحركات السوق في اتجاه حيادي حتى يقرر مصيره.
هذا الإتجاه الحيادي الذي يكمن في داخله مراوحة و تقلبات عنيفة في حركة التداول لاسيما في سوق العملات، دفعنا إلى دراسة بعض العوامل التي قد تعطي صورة واضحة عن الأسباب وراء ذلك و إلى متى قد يبقى هذا الاتجاه الحيادي؟.
و بالتالي فإن دراسة الوضع الاقتصادي العام في كلا من أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية قد يعطي إجابة عن هذا التساؤل. لذا سوف نبحر سويا في رحلة تبدأ من أوروبا و تنتهي عند الجانب الآخر من الأطلسي عند بلاد العام سام.
القارة العجوز (أوروبا)
هاهي قد وصلت إلى مراحل استدعى فيها التدخل الجراحي العاجل كي يتم انقاذ ما يمكن انقاذه وإن بقيت في غرفة العمليات حتى الان و لم تخرج بعد ... إنها تواجه معضلة أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو.
منطقة اليورو التي تضم في عضويتها 17 اقتصاداً يتعامل بالعملة الموحدة "اليورو" و التي تواجه شبح التفكك بل وربما تواجه عملة الوحدة الاقتصادية النموذج شبح الاختفاء فى الوقت الذى يسعى فيه صناع القرار إلى احتواء أزمات جديدة ذات مسببات قديمة لم يتم تدراكها أو اكتشافها إلا بعد تعثر اقتصاديات المنطقة إبان الأزمة المالية العالمية (أزمة الرهن العقاري).
ومن ثم فإن سلوك السوق حاليا يخضع لقوانين الأزمات فالإستثناء هنا اصبح أمر عادي في كل ما يتعلق بأركان التداول أو الاتجاه العام أو معنويات المستثمرين في الأسواق العالمية.
وربما لم تعد البيانات الاقتصادية المعتادة تعطي نفس التأثير على التحركات في الأسواق بعد أن باتت البيانات المتعلقة بالديون السيادية ذات تأثير أقوى بكثير، خصوصا فيما يتعلق بعمليات طرح السندات (إصدار و بيع السندات الحكومية)في الدول الأكثر تعثراً و على شفا حفرة من الوقوع في براثن الافلاس، و إن كان الهاجس الأكبر لدى المستثمرين يتمثل في قدرة الحكومات في الحصول على التمويل و امكانيه سداده مستقبلاً وما يستتبع ذلك من تأثير على تكلفة خدمة الدين أو ما يطلق عليه "العائد".
تمويل العجز بالدين
تقوم الحكومات عادة بالاقتراض سواء على المستوى المحلي او العالمي و ذلك لسداد التزاماتها سواء التنموية او الاقتصادية وذلك في الوقت الذي تتخطى فيه النفقات الايرادات العامة ومن ثم ينشأ العجز. ويعد طرح سندات حكومية "سيادية" للبيع من أشهر سبل الاقتراض.
وفي الآونة الأخير اصبح الإعلان عن قيام دولة ما في منطقة اليورو بطرح سندات في مزاد للبيع يأخذ حيزا هاما في الاجندة الاقتصادية لدى المستثمرين و من ثم فإن جميع البيانات ذات العلاقة يكون لها التأثير على مجريات الأمور في الاسواق.
تلك المعلومات تتمثل في حجم وقيمة السندات المطروحة للبيع و أجل السداد بالإضافة إلى معدل التغطية (يوضح قوة الطلب على الدين، وأحيانا يكون له تأثير لحظي على الاسواق) و أخيراً و هو الأهم " معدل العائد على السند" و هنا يكمن مربط الفرس. حيث أن مدى ارتفاع العائد أو انخفاضه عند عملية الطرح ( في السوق الأولي مقارنة بقراءات المزاد السابق) أو في السوق الثانوي ،هذا بجانب اتساع الفارق بينه و بين العائد على السندات الألمانية التي تعد أكثر استقراراً و أقل مخاطرة في المنطقة يؤثر تأثيراً شديدا في تحرك السوق في الوقت الراهن.
العائد على السندات
هنالك قاعدة كلاسكية في الاستثمار تقول "أن العائد يعني المخاطرة" و من ثم فإن العلاقة طردية بينهما و هذا يؤول للقول إلى " أنه كلما ارتفع العائد ارتفعت المخاطرة أو كلما ارتفعت المخاطرة ارتفع العائد المطلوب من المستثمرين ".
مما يعني أنه عندما تقوم بعض الحكومات المتعثرة في منطقة اليورو بطرح سندات للبيع فإن ارتفاع العائد عليه (سواء عند الإكتتاب أو في السوق الثانوي) في تلك الظروف يعني مدى ارتفاع مخاطر الوقوع في الإفلاس او عدم القدرة على السداد و ما يترتب عليه هو ارتفاع مقدار العائد لمقابلة تلك المخاطر و إن كان معدل الطلب يتأرجح حول المستويات المقبولة.
ارتفاع العائد من وجهة نظر السوق يعني استمرار تواجد المخاطر المتعلقة بالوضع المالي للدولة مصدرة السند ومن ثم ضعف ثقة المستثمرين و هو الأمر الذي ينعكس سلباً على الاسواق ذات المخاطر المرتفعة مثل أسواق الأسهم و العملات ذات العائد المرتفع و يؤثر على سعر صرف اليورو بشكل خاص جداً.
على الجانب الآخر فإن ارتفاع العائد من وجهة نظر الدولة (المقترض) مصدرة السند يعني ارتفاع لتكلفة الاقتراض أو خدمة الدين و هو ما يزيد الأعباء المالية عليها في ظل ظروف اقتصادية لا تُحتمل.
من المثير للإهتمام أن وصول مستويات العائد عند 7% تؤجج المخاوف في الأسواق خاصة أن عوائد السندات طويلة الأجل(10 سنوات) اليونانية و البرتغالية و الأيرلندية كانت قد بقيت لفترات طويلة فوق هذا المستوى و هو ما دفع تلك الدول إلى اللجوء لطلب المساعدة الخارجية وهى أول الدول التى لجأت إلى الإقتراض الخارجي و الحصول على حزم مساعدات اوروبية للحيلولة دون الوقوع في الإفلاس.
إذن، كلما اقترب العائد على السندات الحكومية لأجل عشر سنوات من مستويات 7% ينعكس ذلك على معنويات المستثمرين في الأسواق بالسلب.
حكومات على حافة الخطر
في الآونة الأخيرة أصبح جل إهتمام المستثمرين ينصب على الدول المتعثرة ماليا مثل اليونان و أيرلندا و البرتغال و في الوقت الراهن زاد الاهتمام بأسبانيا و ايطاليا و أيضا فرنسا كنتيجة منطقية لثقلهم الاقتصادي في منطقة اليورو و لاننسى أن الأخيرة تعد من أكبر المقرضين للدول المتعثرة إلا أن تغير الوضع السياسي بها قد يضع اقتصاد البلاد على المحك كما سنوضح لاحقا في هذه الدراسة.
في أسبانيا – رابع أكبر اقتصادات منطقة اليورو- و صاحبة أكبر معدل بطالة في اوروبا تصارع الأحداث وتحاول ان تبقى بعيدة عن طلب المساعدة من حزمة الانقاذ الأوروبية في الوقت الذي تتعهد فيه الحكومة الجديدة بإجراء خطط تقشفية تبلغ قيمتها 27 بليون يورو في العام الحالي.
بينما تحاول الحكومة تجنب طلب المساعدة حتى الآن و إن كانت قد فشلت في مقابلة المستوى المستهدف لعجز الموازنة عند 6% في العام السابق حيث سجل ارتفاعا بلغ 8.5% مما يعني تزايد الشكوك حول إلى أي مدى تستطيع الحكومة الأسبانية تقليل العجز مستقبلاً لا سيما أن المستهدف هذا العام هو مستوى 5.3% و أن يصل إلى مستوى 3% وهو الحد المسموح الخاص بالإتحاد الأوروبي.
لذا فإنه ليس من الغريب أن نجد آخر عمليات طرح الحكومة لبيع سندات لأجل 10 سنوات بقيمة 1.42 بليون يورو قد أظهر ارتفاع للعائد "تكلفة الاقتراض" بلغ 5.79% علما بأن العائد في الإصدار السابق كان عند مستوى 5.4%. وذلك عند الإكتتاب، أما السوق الثانوي فقد كان له رأي آخر إذ أن العائد لامس مستويات 6% عاكساً مدى التوجس الذي يلقي بظلاله على المستثمرين بشأن إلى أي حد قد تستيطع أسبانيا البقاء دون اللجوء إلى طلب المساعدة.
و يمثل الدين العام نحو 68.5% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2011، لكن الحكومة الأسبانية يتوقع أن يرتفع إلى 79.8% بنهاية العام الجاري وهو الأعلى منذ عام 1990 و هذا الصعود الهائل يعكس جزء كبير منه ارتفاع تكاليف خدمة الدين نظراً لارتفاع العائد على الديون.
بينما يتوقع أن تواصل اسبانيا تحقيق إنكماش اقتصادي للعام الثالث على التوالي و ذلك حسب ما نشر عن البنك المركزي الأسباني إذ قد يسجل مستويات -1.7% في ظل قطاع مصرفي متداعٍ يعاني أصلاً من الوهن الشديد.
و بالطبع لم تسلم أسبانيا من مؤسسات التصنيف الإئتماني التى تكالبت عليها حيث قامت مؤسسة ستاندرد آند بورز بعمل خفض لتصنيف الديون متوسطة و طويلة الأجل لتصبح عند الحد الأدنى من المستوى الإستثماري!!.
الرسم البياني التالي يوضح متوسط أسعار العائد على السندات لأجل 10 سنوات في أسبانيا
انتقالا إلى إيطاليا – ثالث أكبر اقتصاديات المنطقة- فالأمر ليس ببعيد عن مصير أسبانيا من حيث طلب المساعدة،إذ تواجه ايضا حالة من الانكماش الاقتصادي و الذي يتوقع أن يصل إلى -1.2% للعام الحالي 2012، هذا بخلاف إزدياد حدة القلق إزاء مدى قدرة الحكومة على تقليص عجز الموازنة لديها.
ووفقا لآخر الإحصاءات الصادرة عن الحكومة الإيطالية فإن إجمالي الدين العام كنسبة من الناتج الإجمالي بلغ 121.1% في عام 2011 وهو الأعلى منذ عام 1996 ومرتفعا عن عام 2010 و الذي سجل فيه 118.7% . هذا و إن كان عجز الموازنة قد تراجع قليلا إلى 3.9% في عام 2011 من 4.6% في عام 2010. هذا بجانب توقعات بإنكماش الاقتصاد الإيطالي لما بين 1.5% إلى 2% بنهاية العام الحالي.
والجدير بالذكر أن إيطاليا تعتبر أكبر المقترضين من فرنسا في المنطقة و بالتالي فإن وضع البنوك الفرنسي قد يتعرض للخطر من عدم مقدرة إيطاليا على سداد ديونها.
ونجد أن العائد على السندات الإيطالية لم ينج ايضا من الصعود سواء على الديون قصيرة او طويلة الأجل، ففي آخر مزاد تم طرح سندات لأجل ثلاث سنوات بعائد 3.82% مرتفعا عن 2.76% في المزاد السابق له.
بينما يلاحظ ارتفاع مستمر للعائد على السندات لأجل 10 سنوات لتصل إلى 5.61% بعد أن سجلت القاع في مارس/آذار السابق عند مستويات 4.81%.
الرسم البياني التالي يوضح متوسط أسعار العائد على السندات لأجل 10 سنوات في ايطاليا
البرتغال و أيرلندا
بعد أن حصلت تلك الدول على حزم إنقاذ مالية لتفادي الإفلاس لم تعد هاتان الدولتان تحملان نفس الأهمية لدى المستثمرين مثل ذي قبل مع تشبع الأسواق بكافة ما تتعرض له من بيانات، لذا فإن الإهتمام ينصب في الوقت الحالي على تلك الدول ذات الثقل الأكبر التي تقف في طابور طلب المساعدة الدولية مثل اسبانيا في المقام الأول وكذا إيطاليا.
هذا و يجب التنويه إلى أن أيرلندا سوف تشهد في 31 مايور/آيار 2012 استفتاء على أحد المواد الدستورية التي تجيز للحكومة الموافقة على "الميثاق المالي الأوروبي" و هو الأمر الذي قد يسهل من حصول البلاد على حزم مساعدات مالية هذا في ظل ترحيب نسبي بالنسبة لأحزاب المعارضة. و تشير آخر إستطلاعات الرأي إلى إمكانية قبول التعديل بنحو 47% من الناخبين مقابل 35% رافضين لتلك التعديلات.
الأب و الأم لمنطقة اليورو
كان يُقال أن لمنطقة اليورو أبً و أم يتمثلان في ألمانيا و فرنسا بإعتبارهما اكبر اقتصاديات المنطقة، لكن بخلاف ذلك فهما أكبر المقرضين للدول التي تعثرت مالياً بالفعل. لذا فإن حلقة الديون متداخلة و متشابكة وأصبح الأمر أكثر تعقيداً.
السياسة و الاقتصاد وجهان لعملة واحدة
في فرنسا – ثبت ما كان متوقعاً خلال الفترة السابقة بشأن المخاوف بخصوص فوز السيد "فرانسوا هولاند" من التيار الاشتراكي بمقعد الرئاسة في البلاد بعد منافسة حادة مع الرئيس السابق "نيكولا ساركوزي" و الذي تلاشي حلمه بالبقاء في الحكم لفترة ثانية حيث جقق "هولاند" 51.8% من اجمالي اصوات الناخبين في الانتخابات الفرنسية.
وفي أول رد فعل للأسواق بعد إعلان النتيجة بشكل رسمي في وقت متأخر من عطلة الاسبوع السابق افتتح زوج اليورو/دولار على فجوة سعرية هابطة حادة مع بدء التعاملات الآسيوية هذا الأسبوع و التي أخذت الزوج تحت الحاجز النفسي 1.3000 .
ومما اثار القلق لدى المستثمرين أن برنامج السيد "هولاند" مناهض تماما لسياسات التقشف التي تعهدت فرنسا بالقيام بها لتقليص عجز الموازنة لديها، حيث يدعو برنامجه إلى دعم النمو في المقام الأول، خاصة في ظل تباطؤ الوضع الاقتصادي في فرنسا و ارتفاع معدل البطالة ليلامس حاجز 10% و لايزال معرض للإرتفاع.
و أفكار و رؤية السيد "هولاند" للخروج من عنق الزجاجة تتمثل في ضرورة خفض سعر الفائدة بجانب دفع البنك المركزي الأوروبي إلى التدخل المباشر في إقراض الدول الأعضاء (وإن كان ذلك يتعارض مع سياسة وقانون البنك المركزي الأوروبي) ،مما قد يحدث اختلافاً فى الرؤى مع بعض دول المنطقة لاسيما ألمانيا و التي شهدت حالة من التوافق النسبي بين "ساركوزي"و "ميركل" مما قد يدفع بمنطقة اليورو إلى مصير مجهول.
فيما تعتبر معضلة الديون بالنسبة لفرنسا مزدوجة و ذات وجهين، ففي الوقت الذي وصل فيه الدين العام إلى 85% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2011 لتعد بذلك أكبر الحكومات المدينة بين دول المنطقة ذوي التصنيف الإئتماني المرتفع هذا من جهة، و من جهة أخرى فإن البنوك الفرنسية عرضة لمخاطر أكبر في حالة عجز إيطاليا و التي تستحوذ على نصيب الأسد من الاقتراض من فرنسا، بجانب أسبانيا و اليونان و أيرلندا و البرتغال كما أسلفنا الذكر.
فيما كان آخر المزادات لطرح سندات بأجل 10 سنوات في أوائل العام الجاري قد شهد إرتفاع للعائد ليصل إلى 3.29% من 3.18% في المزاد السابق له، بينما انخفض معدل التغطية إلى 1.64 مرة بعد أن سجل في مزاد ديسمبر/كانون الأول 3.04 مرة. وهذا ما يعكس المخاطر التي تتعرض لها فرنسا.
الرسم البياني التالي يوضح متوسط أسعار العائد على السندات لأجل 10 سنوات في فرنسا
و استكمالاً لمسلسل التأثيرات السياسية على مجرى الأحداث سنلقى الضوء على الانتخابات التشريعية اليونانية حيث شهد يوم السادس من مايو/أيار 2012 انتخابات البرلمان اليوناني و الذي كان متوقعا فيه استحواذ الاحزاب (حزب سيريزا – من تيار اليسار الراديكالي) المناوئة لسياسات التقشف على المركز الثاني من المقاعد في البرلمان الأمر الذي شكل عائقا أمام الحزب الحاصل على اكبر المقاعد (المركزي الأول) وهو "حزب الديموقراطية الجديدة – من تيار اليمين" في أن يحصل على أغلبية المقاعد حتى و إن قام بالإئتلاف من جديد مع حزب "باسوك" الاشتراكي (المركز الثالث من حيث عدد المقاعد) الذي اشترك معه في الحكم منذ نوفمبر/تشرين الثاني. وهذا ما يضع الدولة اليونانية في مأزق سياسي سوف يتكشف خلال العشرة الأيام القادمة وفقا للإجراءت المتبعة في الدستور.
ووفقا للدستور اليوناني فإنه يتوجب على الحزب الحاصل على المركز الأول في ان يشكل حكومة إئتلافية في غضون ثلاث أيام، و إن فشل فيستوجب على الحزب الحاصل على المركز الثاني في القيام بهذا الأمر و إن فشل في ذلك يتم العرض على الحزب الحاصل على المركز الثالث. و إن بائت تلك المحاولات السابقة كلها بالفشل يقوم رئيس البلاد بعقد اجتماع بين رؤساء الأحزاب البرلمانية فيما يعرف باسم "اجتماع الفرصة الأخيرة" هذا في وقت لايحدد فيه الدستور وقت معين للانتهاء من تلك المباحثات الأخيرة.
وبشكل عام فإن الأحزاب المناوئة لسياسة التقشف حصلت على نحو 30% من المقاعد الأمر الذي يصعب على حكومات الأحزاب السابقة التي استجابت لسياسات تقشف قاسية لخفض عجز الموازنة و إجراء اصلاحات اقتصادية لمقابلة شروط الاتحاد الأوروبي و صندوق النقد الدولي بشأن الحصول على حزم مساعدات ماليةللحيلولة دون سقوط البلاد في الإفلاس.
لذا فإن تغير الإتجاه السياسي في اليونان بعد إخفاق الحزبين التقليدين "حزب الديمقراطية الجديدة اليميني" و حزب "باسوك" الاشتراكي بعد 38 عاماً من الهيمنة على نظام الحكم يدفع بمزيد من المخاوف و القلق الحاد في الأسواق خاصة فيما يتعلق بالتجاوب مع كيفية حل أزمة الديون السيادية.
و لا ننسى انه في حال سيطرة اليسارين على الحكم قد يحدث ذلك تقاربا مع التيار الفرنسي الجديد يسارى النزعة بعد دخول "هولاند" إلى قصر الإيليزيه و بالتالي يتغير شكل الخريطة السياسية الاقتصادية في المنطقة وما يستدعي ذلك من تساؤل و حيرة حول شكل الإصلاحات المالية المرجوة لتخطي أزمة الديون السيادية فى أرجاء القارة العجوز.
المانيا ... الملاذ الآمن
الوضع في بلاد الرايخ قد يكون مختلفا، فالاقتصاد الألماني – أكبر اقتصاديات المنطقة- حقق نمو بنسبة 3% في عام 2011 و ذلك للعام الثاني على التوالي و إن كان أدنى قلبلا من مستوى نمو عام 2010 عندما حقق نسبة 3.7%، هذا النمو ساعد على تراجع إجمالي الدين الحكومي سجل عام 2011 إلى 81.2% من الناتج المحلي الإجمالي منخفضا من مستوى 83% في عام 2010.
ومع وجود وضع اقتصادي قوي يشكل ذلك مصدر ثقة للمستثمرين في الأسواق،لذلك فإن السندات الألمانية تعتبر الملاذ الآمن للمستثمرين، حيث أن هذه السندات ذات عائد أدنى و مخاطرة أقل، و إن كانت ألمانيا تعتبر اكبر المقرضين لأسبانيا المتعثرة.
الرسم البياني التالي يوضح متوسط أسعار العائد على السندات لأجل 10 سنوات في ألمانيا
البنك المركزي الأوروبي
هذه المعطيات السابقة تدفعنا إلى التساؤل حول مدى تدخل البنك الأوروبي في شراء السندات من الدول المتعثرة كمساهمة في إحتواء الأزمة؟، على الرغم من تجنب السيد " ماريو دراغي" – رئيس البنك- الحديث عن ذلك الإجراء في المؤتمرات الأخيرة.
هل سيكتفي البنك بما قد أُنجز من برنامج إعادة التمويل طويل الأمد (LTRO) – تقديم قروض لبنوك المنطقة بأسعار فائدة منخفضة للغاية بهدف دعم السيولة لديها - الذي بلغ نحو 1 تريليون يورو وقد يتم زيادة البرنامج مرة أخرى؟ مع العلم بأن هذه الإجراءات لا تمثل الحل الجذري للمعضلة (أحيانا تقوم بعض البنوك باستخدام تلك الأموال في شراء سندات حكومية) و إنما تعطي قبلة الحياة لاقتصادات القارة في محاولة لدعم الثقة و دفع عجلة النمو.
لنا أن ننوه هنا إلى أن تغير شكل الوضع السياسي في دول كبرى مثل فرنسا أو دولة متعثرة ذات علاقة مباشرة بأزمة الديون السيادية مثل اليونان سوف يزيد من الضغط على البنك المركزي الأوروبي أو بالأحرى سوف يؤدى الى تغليب السياسة النقدية على السياسة المالية العامة خلال الفترة المقبلة بعد أن كان هناك توازي بين السياستين في السابق.
اليورو إلى أين..!!
إن الإسهاب في الحديث عن معضلة الديون السيادية من عدة زوايا كان بهدف الوصول إلى دراسة معظم العوامل المؤثرة على العملة الأوروبية الموحدة "اليورو" ومدى علاقته بالتأثير على سعر صرف الدولار الأمريكي وهو ما سوف نستوضحه من الرسم البياني التالي:
الرسوم البيانية ادناه توضح تصوراتنا الفنية لتحركات مؤشر الدولار الذي يمثل الوزن النسبي "لليورو" فيه 57.6%. و نبدأ بالرسم البياني اليومي و الذى يوضح بجلاء كيف أن المؤشر قد إخترق المتوسط المتحرك 50 (باللون الأحمر) بعد أن وجد دعما قوياً عندخط الاتجاه الصاعد و الذي بدأ من آواسط شهر أغسطس/آب 2011. ليس هذا فحسب بل إن المؤشر يخترق حاليا خط الاتجاه الهابط و الذي بدأ عند النقطة 81.75 (وهي القمة التي سجلت في آواسط شهر يناير/كانون الثاني 2012).
بالإضافة إلى إختراق آخر قام به مؤشر التسارع (RSI14) لخط العزم الهابط بعد أن اخترق المؤشر مستوى 50 نقطة و هي الحد الفاصل بين الصعود و الهبوط.
لذا فإننا نرى فرصا كبيرة لمحاولة إعادة اختبار مناطق 80.80 ثم بمناطق 81.80 لاحقا .ايضاً، إختراق مؤشر الدولار لمناطق المستوى النفسي 80.00 ستفتح الطريق على مصراعيه لتأكيد تشكيل نموذج فني صاعد يستهدف مبدئياً مستويات 85.00 على المدى القصير.
وفي حالة استمرار العزم القوي الصاعد الذي يظهر حاليا على الفواصل الزمنية الأكبر سيسهل على المؤشر ملامسة مناطق 88.70 ثم 89.70 كما يظهر على الرسم البيانى الاسبوعى بالأسفل و الذى يبدو من خلاله ايضاً نموذجاً كلاسيكياً انعكاسياً يؤيد الاتجاه الصاعد على المديين المتوسط و الطويل.
و بما أننا قد أسلفنا الذكر بأن الوزن النسبي لليورو داخل مؤشر الدولار يتعدى النصف و بالتالي فإننا ربما نشهد ضعفاً شديداً لليورو أمام الدولار كإنعكاس فني و كذلك كمرآة تعكس الأوضاع الخاصة بأزمة الديون السيادية.
دعونا الآن ننتقل إلى الطرف الآخر من المعادلة لنرى هل فعلا سيضعف اليورو و يشتد عود الدولار خلال الفترة القادمة لنخرج من حالة الحيادية إستجابة للرؤية الفنية أم ستستمر حالة المراوحة و التقلب لفترة أطول؟
الولايات المتحدة الأمريكية
على الضفة الأخرى من الأطلسي لاتزال الولايات المتحدة الأمريكية تصارع حتى اليوم مما خلفته الأزمة المالية العالمية من تدهور في الوضع الاقتصادي بشكل عام ، و هو ما استدعى بعض الحلول غير الاعتيادية و التي ثبت مع الوقت عدم قدرتها على حل جذور المشكلة و إنما صنفها معظم المحللون على أنها مجرد إجراءات مالية و نقدية للحيلولة دون سقوط الاقتصاد الأمريكي.
المشهد الاقتصادي ينتظر بشكل عام أمرين غاية في الأهمية أحدهم مؤكد وهو إجراء الانتخابات الرئاسية وما يستتبعه من تغير في السياسة الاقتصادية الأمريكية في حال عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض و الآخر الغير المؤكد ولكن معلوم وهو ان يتجه البنك الإحتياطي الفدرالي – البنك المركزي الأمريكي- بالشروع في موجة ثالثة من سياسة التخفيف الكمي (QE3).
وكلا الأمرين يزيد من حالة عدم التأكد في الوقت الراهن بالأسواق و بالتالي فإن تحقق أياً من هذه العوامل أو أحدهما سوف يكون بمثابة رمي حجر في المياه الراكدة و بالتالي قد يتحدد إتجاه صريح للأسواق.
الموجة الثالثة من سياسة التخفيف الكمي
"لكل داء دواء ، لكن فيما يبدو ان الاحتياطي الفيدرالي لايزال يفضل علاج الداء بالداء"
على الرغم من أن القرارات المالية و النقدية التي اتخذت في السابق اسهمت في خفض عدد العاطلين عن العمل بنحو 1.4 مليون شخص منذ أبريل/نيسان من عام 2010 حتى الآن إلا أن هذا الإنخفاض لايعد كافيا مع وجود عدد كبير من العاطلين بلغ نحو 12.5 مليون عاطل وفقا لآخر الإحصاءات الرسمية.
لذا فإن عامل ضعف سوق العمل يعتبر من أحد الأسباب التي تدفع البنك الفيدرالي للإتجاه إلى دعم النمو في محاولة لتوفير فرص عمل جديدة و تهدئة الأسواق، و بالتالي فإن التلميحات الأخيرة من السيد "برنانكي" نحو التفكير في تحفيز الاقتصاد يثير التكهنات نحو الاقدام على تطبيق موجة ثالثة من سياسة التخفيف الكمي (QE3). لاسيما مع وجود بيانات اقتصادية ضعيفة تؤكد هذا الاتجاه.
إذ أن الناتج المحلي الإجمالي أو مستوى النمو في الربع الأول من العام الحالي أظهر تباطؤ الاقتصاد الأمريكي إلى مستوى 2.2% بعد أن كان حقق نمو بنسبة 3% في الربع الأخير من عام 2011 .
ومن المعلوم أن الموجة الثانية من التخفيف الكمي و التي أعلن عنها البنك الإحتياطي الفدرالي رسمياً في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2010 بعد فترة كبيرة من التلميحات قبلها قد تم ضخها بقيمة 600 بليون دولار في ظل وتيرة النمو الضعيف و سوق العمل المتداعي وضعف عمليات الإئتمان. و هذ هي الموجة التي تبعت الموجة الأولى و التي أعلن عنها في آواخر عام 2008 حينما بدأ البنك في طباعة البنكوت بقيمة أولية 600 بليون دولار أمريكي.
و حالياًيمكننا القول أن هناك تحسن نسبي في الاقتصاد وفقا لقراءة المؤشرات الاقتصادية في الفترة السابقة إلا أن الاقتصاد الحقيقي لم يتعافى بعد بالمرة و ليس في مقدرته خلق فرص عمل جديدة رغم أن معدل البطالة تراجع إلى 8.1% في آخر قراءة له. بعد أن كان متخطياً حاجز 10% في آواخر عام 2009.
لكن مجرد الحديث عن موجة جديدة من طباعة ورق البنكنوت و ضخها في وريد البنوك الأمريكية بهدف توفير السيولة يؤثر بشكل أو بآخر في الضغط على قيمة الدولار الأمريكي أمام العملات الأخرى. خاصة أن ليست كل تلك الأموال تذهب لدعم عمليات الإئتمان و بالتالي دعم الإستهلاك.
إنتخابات الرئاسة الأمريكية
إن معظم المحللين يركزون كثيرا على الجانب الاقتصادي وخاصة إمكانية تنفيذ سياسة التخفيف الكمي متغافلين الأهمية الكبرى للجانب السياسي و الذي له مردود كبير في التأثير على سعر صرف الدولار.
إذ أن فوز المرشح الجمهوري السيد "ميت روميني" قد يغير بشكل جذري من السياسة المالية الأمريكية، فعلى الرغم من الجهد الذي بذلته إدارة الرئيس الحالي "باراك أوباما" إلا ان المشكلات ذات الأهمية القصوى لم تنتهي بعد.
هذا في الوقت الذي تضخم فيه الدين الحكومي إلى ما يقارب 15 تريليون دولار و كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تعد هى النسبة الأعلى منذ أربعينيات القرن الماضي و الحرب العالمية الثانية هذافي وقت لم يستطيع فيه المشرعين في الولايات المتحدة في التعامل مع مشكلة كتلك وهو ما أدى إلى خفض التصنيف الإئتماني للبلاد آواخر العام السابق.
إن السيد "رومني" يتنبى سياسات اقتصادية معاكسة لما اتخذته إدارة "اوباما" و إن كانت سياسة الأخير قد ساهمت بشكل أو بآخر في الابقاء على الاقتصاد الأمريكي على قيد الحياة بالتوسع في الانفاق العام، بالرغم من وجود معضلات لم يتم الوصول إلى حل لها.
أهم هذه المعضلات كما سبق و أشرنا هي ارتفاع عدد العاطلين عن العمل و الضعف الشديد في مقدرة الاقتصاد على خلق وظائف تستوعب هذا العدد الهائل من العاطلين.
إذ أن معدل البطالة كان عند مستوى 6.8% عندما فاز "أوباما" بإنتخابات الرئاسة وبقي بعد ذلك الوقت عند مستوى 9% كمتوسط لفترة "أوباما" إلى وقت قريب ثم ظل في فترة مراوحة دون هذا المستوى إلى أن سجل مؤخراً 8.1%، وهذا هو التحدي الكبير أمام اي ادارة أمريكية سوف تصل إلى البيت الأبيض.
وما نود الإشارة إليه هنا أن تغير السياسة الاقتصادية للإدارة الأمريكية هي ما سوف يكون لها التأثير القوي على التحركات في الأسواق، حيث أن تحركات الإدارة الحالية معروف إتجاهها و الأسواق في حالة تشبع من ذلك.
لكن بالنظر إلى الملامح العامة للبرنامج الإنتخابي الخاص بالسيد "ميت رومني" فإنه يهدف في المقام الأول إلى إنهاء دور الحكومة كداعم رئيس للاقتصاد الأمريكي عن طريق خفض الانفاق العام في النواحي المدنية.
و في المقابل دعم القطاع الخاص بشكل كامل حيث يرى أنه الوحيد القادر على خلق وظائف جديدة، و يتمثل ذلك الدعم في خفض الضرائب على الدخل الشخصي و أرباح الشركات.
أيضا الاتجاه الصريح نحو فرض رسوم على الواردات الصينية في حالة ما إذا لم تقم الصين بتعويم عملتها، و هنا نتحدث عن علاقات اقتصادية سياسية تعتبر الأهم على مستوى العالم، و لا ننسى أن الصين أكبر حائز للسندات الأمريكية و ما يمكن أن تقوم به في الضغط على قيمة الدولار الأمريكي بشكل عام.
جدير بالذكر أن فوز السيد "رومني" سيطيح بالسيد "بن برنانكي" من فوق مقعده الوثير الذي ظل عليه قرابة ست سنوات، حيث يرى "رومني" أن بن برنانكي غير قادر على قيادة البنك بشكل جيد في مرحلة رئاسته.
وختاماً فإن ملامح برنامج "رومني" لايزال في طور الدعاية الانتخابية، و بالتالي فإن صوت الناخب الأمريكي هو الذي سوف يحدد مسار السياسة و الاقتصاد الأمريكي و كذا الدولار الامريكى في اوائل العام القادم.
ألا يترآى لنا بعد كل هذا أن الخروج من رحم الأزمة المالية العالمية الحالية يقع بين شقي رحى السياسة و الاقتصاد على ضفتي الأطلسى؟؟
للتواصل : mgalal@ymail.com
الف شكر اخي على هذا الشرح المفصل
شكرا لسيادتكم