يبدو أن عمليات إزالة الدولرة عالمياً تسير بوتيرة أسرع من التوقعات فبعد أن أسيء استخدام السياسة النقدية في أميركا على مدى عقود أدت لاستفحال التضخم نتيجة خطط رفعت مديونية واشنطن لقرابة 31.5 تريليون دولار بينما يقارب 126 بالمائة من حجم الناتج الإجمالي الأمريكي تخللها دائماً رفع لأسعار الفائدة لكبح التضخم مما يعني بالضرورة أثراً سلبياً على النمو الاقتصادي العالمي وإذا تعرض الاقتصاد لركود أو تباطؤ خفضوا الفائدة مع طرح كميات كبيرة من التيسير الكمي مما أدى لتصدير التضخم للخارج وبما أن الخلافات السياسية بين القوى الكبرى وصلت حد المواجهات غير المباشرة عسكرياً فإن الاتجاه لسياسات أشد تأثيراً هو ما يسود الساحة الدولية بينهم، فالدولار يمثِّل القوة النووية الحقيقية لأميركا وبسبب أنه عملة الاحتياط الأولى بالعالم لأن السلع تسعّر به أصبحت حمايته موكلة للعالم بينما تمتعت أميركا بإيجابياته عليها دون أن تجد أي منافسة من العملات الأولى بالعالم لكن هذا النهج بدا يتغير خصوصاً في آخر عقدين، إذ تراجع حجمه بالاحتياطيات والتجارة الدولية.
ومؤخراً أعلنت دول عديدة عن توجهها لاستخدام العملات المحلية في تجارتها مع الصين مثل البرازيل والأرجنتين وكانت روسيا قد سبقتها بذلك والعديد من الدول وهو ما أدى لتعبير واشنطن عن قلقها من هذه الخطوات التي تضعف الدولار وبالمقابل تعزِّز من دور اليوان الصيني عالمياً والذي تضاعف استخدامه بالتجارة الدولية خلال عام ليصل لحوالي 4.5 بالمائة وإذا كان الاعتقاد بأنها نسبة ضئيلة فلا بد من التذكير بأنه قبل عقدين كان ينظر للصين بأن حجم اقتصادها ضئيل إلا أنه اليوم ثاني اقتصاد عالمي والأولى بالتجارة الدولية وتمتلك اتفاقيات تجارية واسعةً مع حوالي 61 دولة بينما لدى واشنطن 31 اتفاقية لكن المواجهة الفعلية للدولار ليست من دول، بل مجموعة بريكس التي تأسست عام 2006 كمنافسة لمجموعة السبع الكبار وتضم تكتلاً من خمس دول هي الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا والتي تمثِّل مجتمعةً حوالي 40 بالمائة من سكان العالم، بينما تضم مجموعة السبع الكبار حوالي 11 بالمائة من سكان العالم أما من حيث التأثير بالناتج الإجمالي العالمي فلأول مرة تحقق بريكس تفوقاً على مجموعة السبع، حيث حققت العام الماضي ما نسبته 31.7 بالمائة مقارنة مع 30.5 لواشنطن وشركائها كما أن 50 بالمائة من النمو الاقتصادي العالمي المتوقع لهذا العام سيأتي من الصين والهند وفق توقعات صندوق النقد الدولي، لكن أخطر ما سيناقش هذا العام في اجتماع بريكس القادم هو الاتجاه لتأسيس عملة تخصهم وستكون المنافس القوي والحقيقي للدولار ومع انشاءهم لبصندوق وبنك يدعمان التنمية دولياً خصوصاً بالدول النامية فإن الاتجاه سيزداد لاستخدام عملة بريكس إذا رأت النور وستشكل مع الزمن عملة الاحتياط الأولى بالعالم وهو ما سيعني تراجع استخدامات الدولار الذي يعد حجر الزاوية بقوة أميركا وهيمنتها الدولية فانهيار استخداماته تعني أن جبال من الدولارات سوف تبقى بلا طلب مما يشعل التضخم بأميركا ويسبب انهياراً اقتصادياً مدوياً فهذا الاحتمال رغم أن نسبة حدوثه ضئيلة جداً لكن الخطوات التي يسير بها العالم لانتزاع مكانة الدولار لصالح عملات أخرى تدل على إمكانية أن تتغير المعادلة بالاقتصاد العالمي.
بكل تأكيد أميركا لن تقف متفرجة على ابنها البار الدولار الذي يمثِّل حجر «سنمار» في برجها الاقتصادي العاجي وأي طرف سيصل له ويقوم بسحبه سيقع البرج على من فيه فكل مقومات النظام العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية تتغير والقطبية الدولية أصبحت أمراً واقعاً ولن يكون الدولار استثناءً من هذا التغيير وبنفس الوقت ينتظر العالم ماذا ستفعل أميركا لمنع هذا الانزلاق الرهيب والمتسارع للدولار في حجمه وتأثيره دولياً خلال العقد الحالي والقادم.