مذكّرات «عاطل» قبل الموت!

08/02/2012 9
عبد الحميد العمري

وأنا أدنو من قضاء لحظاتي الأخيرة في هذه الدنيا الفانية؛ لا زلت أتذكّر ذلك الصباح الأجمل في حياتي! صباح أوّل يومٍ لي في مدرستي الابتدائية. لا زلت أتذكّر أمي حينما استقبلتني فرحةً بفارسها الصغير حاملاً حقيبته “هاهـ حبيبي.. وش تبي تصير إذا صرتْ كبير؟” أجبتُ بفخرٍ: أبى أصير طبيب.. لا أبى أصير طيار.. والاّ أحسن شي؛ أبى أصير مهندس مثل أبوي.. أحلامي، معنوياتي، همّتي.. ارتقتْ إلى عنان السماء مع ضحكاتها وضحكات والدي، وزاد زهوي بنفسي مع دعائهما وأنا أقف بكل فخرٍ أمام إخوتي الأصغر مني.

سنينٌ عبرتُها بطفولتي وشبابي، بحلوها ومرّها، بنجاحاتها وخيباتها، بقصصها، بمغامراتها، إلى أن دخلتُ عليهما بشهادتي الجامعية في الهندسة! لم أنسَ رغم أحزاني ويأسي لاحقاً تلك الحفلة العظمى التي جمع فيها والدي كل أقاربنا وأحبتنا ابتهاجاً بتخرجي. كأنني ربّان سفينة أبحرتْ في بحر الظلمات.. أبحرتُ بشهادتي في اليوم الثاني بحثاً عن فرصة عمل! نذرتُ في قلبي أن أوّل راتب أستلمهُ سيكون كله قيمة هديتين لأمي ووالدي! مضتْ بي سفينتي في لجّة الأيام والشهور والسنين ولم أصل بعد إلى ذلك الميناء (الوظيفة).

حطّمتُ كبريائي بعد طول سنين من الأحلام الزائفة، توقفتُ كثيراً عند جزرٍ صغيرة (وظائف مؤقتة)، أردتُ أن أثبت لنفسي المحطمة الكبرياء أن هذه الجزر الصغيرة جزءٌ من رحلة المهندس العظيم مستقبلاً.. وهكذا مضى بي العمر دون أن أشعر من جزيرة صغيرة إلى جزيرةٍ أخرى أصغر.

بلغتُ أشدَّ عمري ولم أصل بعد إلى الميناء، وبسرعةٍ مجنونة أصبحتُ أنظر للوراء كثيراً، أسرد ذكرياتي أكثر من أحلامي، غزا جسدي الهزيل “السكر” و”الضغط”! ولم أتزوج بعد! ومن يقبلُ بي وأنا هائمٌ هكذا في مهب الريح؟ ما أعجلكِ عليّ أيتها السنين العجاف.. ها أنا راحلٌ إلى أرحم الراحمين “أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله”.