لم يتوقف سيل المفاجئات الاقتصادية في العام الجديد عند تنفيذ الزيادة المقررة على رؤوس أموال البنوك الوطنية بنسبة 10% لصالح جهاز قطر للاستثمار، ولا عند تغيير السياسة المصرفية في التعامل مع الأرصدة الحرة للبنوك لدى المصرف المركزي للقضاء على تراكم تلك الأرصدة التي وصلت إلى 69 مليار ريال مع نهاية عام 2010، ولا بإصدار سندات حكومية ضخمة (بقيمة 50 مليار ريال) لامتصاص فائض السيولة لدى البنوك، وإنما تعدى ذلك إلى زيادة أسعار المحروقات بنسب تراوحت ما بين21% للبنزين العادي و25% للبنزين السوبر، إلى 42.8% للديزل ونجو100% للكيروسين الذي هو وقود الطائرات. وصحيح أن عنصر المفاجئة في جميع هذه القرارات قد أظهر حراكاً جيداً وتفاعلاً حياً من جانب الحكومة لاستحقاقات مرحلة ما بعد الفوز بتنظيم المونديال من ناحية، ولتصحيح بعض معطيات الاقتصاد القطري على ضوء النتائج التى انتهى إليها التطبيق في عام 2010 من ناحية أخرى، إلا أن الآثار التي خلفها كل قرار كانت بحاجة إلى وقفة تأمل لمعرفة أبعاد تلك الآثار فضلاً عن تدارس الأسباب والدوافع التي دعت إليها.
والقرار الجديد بزيادة أسعار المحروقات الذي صدر باقتضاب عن شركة وقود هو بالتأكيد قرار حكومي أو بمباركة حكومية لأن أي شركة مساهمة لا تملك أن ترفع سعر سلعة حيوية وهامة كالوقود دون موافقة الحكومة، فالحكومة التي لا تتردد في دعم السلع الضرورية كالخبز والأرز وغيرها، تحرص كل الحرص على إبقاء أسعار هذه السلع في متناول الجميع خاصة وأننا في بلد يصدر النفط ومنتجاته وبالتالي لا يشكل الدعم للمحروقات أي أعباء على ميزان المدفوعات القطري. ثم إن شركة وقود من أنجح وأقوى الشركات المساهمة في قطر وتحقق أرباحاً ضخمة كل عام بما جعل سعر سهمها في البورصة يزيد عن 250 ريالاً للسهم، وبالتالي لم تكن الشركة بحاجة إلى تلك الزيادة المفاجئة إذا تعلق الأمر بربحيتها ومركزها المالي. صحيح أن الشركة تستورد كميات كبيرة من الديزل من الخارج وتبيعها بالسعر المدعوم، إلا أن بقية المنتجات وخاصة البنزين هي من إنتاجها المحلي، فلماذا يتم زيادة أسعار المحروقات بهذه النسب المرتفعة؟
• هل هناك عجز في الموازنة العامة للدولة ويراد تغطيته بزيادة الأسعار؟ الإجابة بالطبع لا لأن الفائض المتوقع في موازنة العام الحالي قد يزيد عن 50 مليار ريال، وهو ما ينفي الحاجة إلى زيادة طارئة في الإيرادات العامة، مع العلم بأن الإيرادات التي سيتم تحصيلها من الزيادة لا تتجاوز 1.5 مليار ريال سنوياً.
• هل لأن معدل التضخم كان سالباً في عام 2010 وأنه رغم نمو المجموعات الفرعية لأسعار السلع والخدمات بنسبة تزيد عن 3%، فإن الرقم الخاص ببند الإيجار والوقود قد أنهى العام على انخفاض بنسبة -6.6%، مما أبقى المعدل سالباً عن عام 2010، وبالتالي هل هناك من رأى أن زيادة أسعار المحروقات في هذا الوقت بالذات تبدو مناسبة لأنها لن ترفع معدل التضخم كثيراً، وأن هذا الوقت بالذات هو أنسب الأوقات لرفع معدل التضخم إلى مستويات مقبولة؟؟ قد يكون ذلك صحيحاً إذا كان المطلوب أن يكون معدل التضخم في حدود 2-3% للعام 2011 انسجاماً مع نمو الاقتصاد القطري بأعلى المعدلات، ولكن هل من الممكن أن يظل معدل التضخم ضمن المستويات المقبولة المشار إليها؟ أم أن مضاعفات الزيادة في أسعار المحروقات قد تؤدي إلى زيادته بأكثر من ذلك في الشهور القادمة؟ المعروف أن أثر الزيادة لا يقتصر فقط على تكلفة وقود السيارات الشخصية بل سيمتد إلى كل الأنشطة الأخرى؛ فسيارات النقل والشحن بأنواعها سوف تنقل الزيادة في تكاليف تشغيلها إلى المستهلك، وإلى المشروعات التي سيجرى تنفيذها، وسوف تزداد تكلفة إنتاج الخبز فتضطر الحكومة إلى زيادة دعمه، وقد ترتفع تكاليف السفر بالطائرات، فينتقل أثر الزيادات إلى أسعار بقية السلع والخدمات فتزداد أسعارها ما لم تعمل وزارة الأعمال والتجارة على مراقبة الأسعار بصرامة.
• هل أن الهدف من الزيادة اقتصادي بحت لحث المستهلكين على تقنين استهلاكهم لهذه الثروة الناضبة، ولتقليل الإنبعاثات الحرارية من عوادم السيارات، وتخفيف حركة السيارات على الطرق؟ قد يكون ذلك الأمر صحيحاً جزئياً وخاصة إن بعض الدول كالإمارات قد رفعت أسعار المحروقات لديها بأكثر مما فعلت قطر، وإن كانت دول أخرى في المنطقة لا تزال الأسعار لديها أقل. ومع ذلك فإنه بسبب محدودية مرونة الطلب على الوقود، فإن هذه الزيادة لن يكون لها الأثر المطلوب اقتصادياً إلا في أضيق الحدود.
• قد يكون الهدف من الزيادة رفع متعمد لتكاليف المعيشة في قطر للحد من الزيادة السكانية في قطر الناتجة عن الهجرة، وذلك قد يكون صحيحاً جزئياً ولكن هناك طرق أخرى كثيرة يمكن إتباعها للوصول إلى هذا الهدف دون التأثير السلبي على مستويات المعيشة في قطر، ولقد ثبت في مراحل سابقة أن مثل هذا المنهج في تكاليف المعيشة لا يمنع زيادة السكان، فرغم أن أسعار المحروقات قد زادت من قبل عدة مرات، ورغم أن رسوم الصحة والعلاج ورسوم الداخلية قد تضاعفت عدة أضعاف قبل عقد من الزمان أو أكثر إلا أن ذلك لم يمنع من وصول عد السكان إلى 1.7 مليون نسمة.
وإذن فقد تكون هنالك مبررات عديدة للزيادة المفاجئة في أسعار المحروقات، إلا أن توقيت صدور القرار، وكون قطر دولة مصدرة للمنتجات البترولية، وذات فائض مالي ضخم قد جعل القرار مفاجأة من العيار الثقيل لكثير من المستهلكين وأصحاب الأعمال، وإلى الحد الذي باتوا يرجون فيه بصدق أن تكون تلك آخر المفاجآت. ويظل ما أقوله دائماً رأي شخصي يحتمل الصواب والخطأ ،،،، والله أعلم.