هل يصبح اليوان الصيني عملة دولية؟ .. 1

17/12/2010 3
د.محمد إبراهيم السقا

من المؤكد أن العالم الذي نحن فيه يعيش وضعا اقتصاديا سيئا، كونه أحادي القطب تقريبا بالنسبة لعملاته، حيث يعتلي الدولار الأمريكي عرش العملات الدولية، ويسيطر على أكثر من 80 في المائة من المعاملات اليومية في سوق النقد الأجنبي العالمي. لم يكتسب الدولار الأمريكي مكانته الحالية على المستوى الدولي من فراغ، فالدولار هو عملة أكبر اقتصاد في العالم، والكميات المصدرة منه ضخمة جدا إلى الحد الذي يمكن أي دولة أن تحصل على احتياجاتها منه لأغراض الاحتياط مهما بلغت، ويدعمه سوق ائتمان ضخم جدا، هو أكبر سوق للائتمان قصير الأجل في العالم، ويساعده حجم ضخم جدا لأدوات الدين التي تمكن دول العالم من تحقيق الاستفادة المزدوجة من احتياطياتها الدولارية، أي من خلال استخدام الدولار كعملة احتياط من جانب، وتحقيق عوائد على تلك الاحتياطيات من خلال شراء أدوات الدين الأمريكي قصير الأجل من جانب آخر، كل هذه المزايا تعطي الدولار الأمريكي البعد الديناميكي كعملة احتياط على المستوى العالمي. بديل الدولار الأمريكي الذي يتمتع بهذه المزايا كعملة احتياط على المستوى الدولي غير موجود بالفعل حاليا.

ليس هناك مشكلة في أن يحتل الدولار هذا الوزن الضخم في التسويات الدولية، إذا ما كان يتمتع بالاستقرار النسبي، وإذا كانت السياسات النقدية والمالية للولايات المتحدة تتسم بالحصافة المطلوبة، بحيث ينمو عرض الدولار بمعدلات تتوافق مع نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الأمريكي، ونمو الطلب على الدولار في الخارج، وبحيث لا تؤدي السياسات المالية إلى نمو الدين العام بمعدلات تتجاوز قدرة الولايات المتحدة على خدمة دينها العام بسهولة، وأن تحتفظ الولايات المتحدة بميزان مدفوعات متوازن نسبيا، أو بعجز بسيط بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي. مثل هذه الشروط تساعد على استقرار القوة الشرائية للدولار، وتحول دون تدهور معدلات صرفه الحقيقية بالنسبة للعملات الرئيسية في العالم، الأمر الذي يعظم ثقة العالم في العملة الدولية ويقلل المخاطر المصاحبة لاستخدامها.

غير أن واقع الحال يشير إلى أن كافة هذه الشروط غير متوافرة حاليا للدولار، فالسياسة النقدية للولايات المتحدة تقوم حاليا على ضخ كميات هائلة منه، بهدف التحفيز النقدي للاقتصاد الأمريكي، للمساعدة على تعزيز فرص الخروج السريع من الكساد الحالي، والسياسة المالية منذ زمن طويل، إذا ما استثنينا السنوات الأخيرة لبيل كلينتون، تسير بلا ضابط تقريبا، وما يزيد الطين بلة أن القيادة السياسية الأمريكية تندفع في بعض الأحيان إلى الدخول في مغامرات عسكرية غير محسوبة العواقب، والنتيجة هي نمو الدين العام الأمريكي إلى مستويات قاربت نسبة 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو بكافة المقاييس دين عام ضخم جدا، إذا ما أخذنا في الاعتبار حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، وأخيرا فإن عجز ميزان المدفوعات الأمريكي، ولفترة طويلة من الزمن، يعكس السلوك الاستهلاكي غير المنضبط في الولايات المتحدة، ويشكل عنصر تهديد أساسيا للدولار.

كل هذه العوامل تصب في قناة واحدة، هي الضغط على الدولار الأمريكي، ولقد كان من المفترض في ظل استمرار هذه الأوضاع أن نرى تراجعا حادا في مركز للدولار الأمريكي على المستوى الدولي، غير أن فشل العالم في أن يجد عملة بديلة أو رديفة للدولار حتى الآن، ساعد الأخير على الاستمرار في اعتلاء قمة النظام النقدي الدولي، واستمر يلعب دور عملة العالم حتى يومنا هذا، مستفيدا بالطبع من الوزن الهائل للاقتصاد الأمريكي على المستوى العالمي، وسوق المال الضخم للولايات المتحدة.

منذ أن تخلى العالم عن نظام معدلات الصرف الثابتة، أو المثبتة بالدولار الأمريكي في عام 1973، وسمح لكل دولة أن تتبنى نظام معدل الصرف الذي يناسبها، أصبح العالم يتبع نسخة غريبة نسبيا من النظام النقدي الدولي، حيث أصبح يتبع نظاما نقديا عالميا شبه أعرج، فقد استمر الدولار الأمريكي يلعب دوره كمركز للنظام النقدي الدولي، وهو نفس الدور تقريبا الذي كان يلعبه في ظل نظام أسعار الصرف الثابتة، دون أن يكون ذلك مصحوبا بالتزام الولايات المتحدة بالحفاظ على قيمة الدولار ثابتا في مواجهة باقي عملات العالم، أو مصحوبا بالتزام باقي دول العالم في مساعدة الولايات المتحدة على الحفاظ على الدولار مستقرا، أو تخفيض الضغوط عليه، ومن ثم أصبحنا نعيش في ظل نظام يتبع قاعدة للا قاعدة.

النظام النقدي العالمي الذي يقوم على أساس قاعدة اللا قاعدة، يرفع من درجة المخاطر المصاحبة لتنقلات رؤوس الأموال والاستثمار على المستوى الدولي، خصوصا أن الدولة صاحبة العملة الدولية غير ملتزمة للأسف بقواعد اللعبة التي تخولها أن تقوم بدور المصدر لعملة العالم في معظم الأحيان، أو بمعنى آخر فإن هذه الدولة تلتفت أساسا لمصالحها الخاصة، جاعلة الوضع الدولي للدولار في مرتبة متأخرة في سلم أولوياتها.

لم يكن النظام النقدي العالمي أقل استقرارا، أو أكثر عرضة للمخاطر، مثلما هو الحال عليه اليوم، فقطبا النظام النقدي الدولي، اليورو والدولار، يتعرضان لمخاطر جمة، فالأول يواجه ضغوطا هائلة نحو الهبوط، سواء أكانت تلك الضغوط انعكاسا للاتجاه العام طويل المدى الناجم عن تراجع القدرات التنافسية للاقتصاد الأمريكي على المستوى الدولي، أو تلك الطارئة التي تعكس السياسات النقدية والمالية الحالية لصانع السياسة الأمريكي، في الوقت الذي يواجه فيه اليورو أقسى الاختبارات التي يتعرض لها، والتي ربما، إذا ما ساءت الأوضاع بصورة أكبر، تودي به كعملة دولية. الأوضاع الحالية للنظام النقدي العالمي، أخذا في الاعتبار مناخ الأزمة، تجعل منه نظاما غير قابل للاستدامة، فالولايات المتحدة تمطر العالم بمئات المليارات من الدولارات، بينما تواجه دول أوروبا طوفانا من الديون السيادية الذي يهدد المنطقة بأسرها.

في ظل هذه الأوضاع من الطبيعي أن تهتز الثقة الدولية للأسواق، وثقة المستثمرين بهاتين العملتين على نحو واضح، خصوصا في ظل الاعتقاد السائد بضعف احتمالات نجاتهما في الأزمة الحالية. إذا كان الوضع كذلك فمن المؤكد أن العالم في حاجة إلى نظام نقدي دولي بديل أكثر استقرارا وثباتا وقدرة على الاستدامة بالشكل الذي يساعد الأسواق على الاستقرار والنمو، وبحيث يستند هذا النظام إلى أكثر من بديل أو عملة. البدائل المقترحة التي يمكن أن تشكل أعمدة هذا النظام الجديد متعددة، أولها هو حقوق السحب الخاصة، العملة الحسابية التي يصدرها صندوق النقد الدولي، والثاني هو اليوان الصيني باعتباره عملة ثاني أكبر اقتصاد في العالم حاليا، والثالث هو أن يتم استبدال النظام النقدي الدولي الحالي بنظام يستند إلى عملة عالمية Global currency.

حقوق السحب الخاصة هي عملة حسابية رسمية، يصدرها صندوق النقد الدولي، ويقتصر التعامل فيها حاليا على البنوك المركزية للدول الأعضاء في الصندوق، ومن ثم ليس مسموحا للأشخاص أو الشركات بأن تتعامل فيها، وهي عملة تم إنشاؤها منذ 1969 لمواجهة الطلب المتزايد على السيولة الدولية، ومع ذلك لم تحقق نجاحا على المستوى الدولي كعملة احتياط، نظرا لضعف كميات الإصدار التي تتم منها، بما في ذلك الإصدار الأخير الذي تم بموجب توصية مجموعة العشرين بأن يقوم صندوق النقد الدولي بإصدار 250 مليار دولار في صورة وحدات حقوق سحب خاصة (أي نحو 161.2 مليار وحدة حقوق سحب خاصة)، وذلك لمساعدة دول العالم في توفير سيولة احتياطية إضافية. مقترح استخدام وحدة حقوق السحب الخاصة كعملة دولية يقابله العديد من المشاكل الخطيرة أهمها:

1. أن صندوق النقد الدولي لا يستطيع حاليا أن يصدر كميات كافية منها للوفاء باستخدامات حقوق السحب الخاصة كعملة احتياط على المستوى الدولي، كما أن الكميات المصدرة حاليا من وحدات حقوق السحب الخاصة تعد ضئيلة جدا مقارنة بحجم السيولة الدولية، أو المعاملات اليومية في سوق النقد الأجنبي على المستوى الدولي.

2. أن النظام الحالي لتوزيع الكميات المصدرة من حقوق السحب الخاصة (على أساس نسبة حصة العضو في رأس المال) لا يضمن، في حال تبني العالم لها كعملة دولية، حصول كل دولة على احتياجاتها من تلك العملة لأغراض الاحتياط، ويعطي الدول التي ترتفع حصتها في رأسمال الصندوق، مثل الولايات المتحدة، ثقلا في التعاملات على هذه العملة دوليا، خصوصا فيما يتعلق بإقراض فوائض حصتها إلى الدول الأخرى، مما يجعل هذه العملة عرضة للضغوط التي يمكن أن تمارسها هذه الدولة.

3. أنها عملة بدون اقتصاد يعبر عن قوتها، أو بنك مركزي يدافع عنها، أو احتياطيات كافية تساندها، ذلك أن إجمالي حجم احتياطيات صندوق النقد الدولي حاليا لا تمكنه من أن يضطلع بدور المصدر لعملة العالم.

4. أن استخدام حقوق السحب الخاصة يقتصر حاليا على البنوك المركزية فقط، مما يجعل استخدام هذه العملة محدودا، والعملة لا تصبح دولية إلا إذا كان هناك استخدام كثيف لها على المستوى العالمي، وقد كانت هناك محاولات سابقة من قبل الصندوق للسماح للشركات المتعددة الجنسيات باستخدام وحدات حقوق السحب الخاصة، إلا أن التجربة لم تنجح.

5. إذا كانت وحدات حقوق السحب الخاصة غير قابلة للاستخدام من قبل الأطراف غير الرسمية، فإنها لا تصلح لاستخدامها كعملة احتياط، أي كعملة يستخدمها أي بنك المركزي للتدخل في سوق النقد الأجنبي للدفاع عن عملته المحلية، لأنه لن يستطيع أن يتدخل في سوق النقد الأجنبي في الوقت المناسب لبيعها أو لشرائها لأغراض التأثير على معدل صرف عملته المحلية، خصوصا أن عملية استخدام حقوق السحب الخاصة تقتضي موافقة الصندوق مسبقا، ومن ثم لن يجد البنك المركزي الديناميكية السوقية اللازمة للتدخل السريع من خلال بيع أو شراء هذه العملة.

6. أن استخدام وحدات حقوق السحب الخاصة كعملة احتياط، لن يعني إمكانية استخدامها كعملة ائتمان على المستوى الدولي خارج نطاق التعاملات الرسمية بين البنوك المركزية في دول العالم، وهو ما يقلل من قيمة هذه العملة، ويقلل من حجم العوائد التي يمكن أن تحققها البنوك المركزية من احتياطياتها بهذه العملة.

7. أن استخدام وحدات حقوق السحب الخاصة كعملة احتياط على المستوى الدولي سيتطلب تغييرا هيكليا في الدور الذي يلعبه صندوق النقد الدولي على المستوى العالمي، وحجم الموارد المالية المتاحة له، ونسب مساهمة دول العالم في رأس ماله، ودوره في فرض سياسات الاستقرار الاقتصادي على المستوي الدولي، وهو الأمر الذي قد يجد معارضة كبيرة من قبل القوى الاقتصادية العالمية، بصفة خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تملك قوة تصويت جوهرية في الصندوق.

في ظل هذه القيود تضعف احتمالات أن تتحول وحدات حقوق السحب الخاصة إلى عملة دولية بديلة للدولار، أو منافسيه له، وبالتالي فإن البديل الأكثر احتمالا هو صعود عملة تنافس الدولار على المستوى الدولي، وتحل محله كعملة احتياط وكعملة لتسوية المبادلات على المستوى الدولي، هذه العملة في وجهة نظر بعض المراقبين هي اليوان الصيني. فخلال العقدين الماضيين كانت الصين كاقتصاد تنمو بمعدلات أقل ما يمكن أن توصف بأنها معدلات استثنائية، ومن حيث الحجم أصبحت تحتل المركز الثاني عالميا بعد الولايات المتحدة، خصوصا بعد أن فقدت الأخيرة سنوات من النمو نتيجة أزمتها، لذلك ينظر البعض إلى اليوان الصيني على أنه أقوى عملة يمكن أن تشكل البعد الثالث في هذا العالم بعد الدولار واليورو.

ولكن ما هو احتمال أن يتحول اليوان الصيني إلى عملة دولية؟ أو أن يحتل عرش الدولار الأمريكي؟ بصفة خاصة، ما الشروط الواجب توافرها لكي يحتل اليوان هذا المركز العالمي؟ وهل يمكن أن تتمكن الصين من توفير هذه الشروط؟ وهل من مصلحة الصين أصلا أن يتحول اليوان إلى عملة عالمية في نفس وضع الدولار؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا ترفض الصين هذا التحول؟ أم أن الصين تخطط لكي يصبح اليوان عملة دولية مثل الدولار ولكن من خلال سياسة التحول خطوة خطوة نحو الهدف طويل الأمد، كما تحولت الصين إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم أيضا خطوة بخطوة؟ وما الخطوات التي قامت بها السلطات النقدية الصينية في هذا الاتجاه؟ وهل هذه الخطوات كافية بالفعل لكي تساعد اليوان لأن يكون عملة دولية؟ أم أن اليوان سيفرض نفسه في النهاية على الساحة كعملة دولية بديلة للدولار؟

في هذه السلسلة من المقالات نتناول الإجابة عن هذه الأسئلة بالتفصيل إذا أحيانا الله سبحانه وتعالى.