ارتباط العملات الخليجية بالدولار الأمريكي، والمستقبل المجهول الذي بات ينتظر العملة الأمريكية، يضع علامات استفهام كبيرة حول تأثير ذلك في السنوات القليلة القادمة على اقتصاديات دول التعاون ومن بينها بالطبع الاقتصاد القطري. والتسليم بأن الدولار سيتدهور ناتج عن أن المعضلات التي تواجه الاقتصاد الأمريكي ليست كتلك التي تحدث في الدورات الاقتصادية المعتادة ما بين انكماش وركود وانتعاش، وإنما هي أكثر تعقيداً من ذلك بكثير، ولا يمكن حلها بالسياسات الاقتصادية التقليدية التي في مقدمتها السياسات النقدية لبنك الاحتياط الفيدرالي.
المعروف أن سعر صرف الدولار قد بدأ في التراجع منذ وقت طويل وتحديداً منذ منتصف السبعينيات نتيجة لتبعات الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة في فيتنام، واستمر التراجع التدريجي حتى النصف الأول من التسعينيات، عندما وصل سعر صرف الدولار إلى 79 يناً يابانياً مقارنة بـ 280 ين قبل ذلك بعشر سنوات، فكان أن صدَّرَت الولايات المتحدة الأزمة الاقتصادية لليابان، وتمتع الاقتصاد الأمريكي بانتعاش استمر حتى عام 2002. ومع تورط إدارة الرئيس بوش في حروب العراق وأفغانستان، عاد سعر صرف الدولار إلى التدهور من جديد، ووصل الأمر ذروته في عام 2007 عندما وصل سعره إلى 1.62 دولار لليورو الواحد. يومها توقف تدهور الدولار على جبهة اليورو لأن اقتصاديات أوروبا لم تحتمل تكلفة ارتفاع عملتها مقابل الدولار فدخلت في ركود اقتصادي منذ عام 2008، وانخفض سعر اليورو إلى 1.24دولار. واستمد سعر صرف الدولار أمام اليورو قوة إضافية في عام 2010 من أزمة الديون السيادية الأوروبية التي تفجرت في بداية العام، فانخفض اليورو مجدداً إلى 1.19 دولار. إلا أن ذلك لم يدم طويلاً إذ سرعان ما تحسن سعر صرف اليورو بعد أن واجهت أوروبا الموحدة أزمة الديون السيادية ببرامج تقشف صارمة، نتج عنها عودة اليورو إلى مستوى 1.40 دولار ثانية.
ومع نهاية عام 2010 بدا أن الاقتصاد الأمريكي لم يستجيب لكل برامج التحفيز التي اعتمدتها إدارة الرئيس أوباما على مدى عامين وأنه لا يزال بحاجة إلى ضخ المزيد من السيولة في أوصاله المتعبة، خاصة وأن خفض سعر الفائدة على الدولار إلى الصفر-كما في اليابان- لم ينجح إلا في إحداث نمو محدود لا يمكن الاعتماد عليه في تشغيل قوة الدفع الذاتية للاقتصاد. وما أقصده هو أن معدل البطالة كان لا يزال عند مستوى 9.6% في أكتوبر الماضي، وذلك المستوى المرتفع تزداد فيه مخصصات إعانة البطالة وتقل عائدات الضرائب فيزداد عجز الموازنة العامة للدولة، وتتراكم الديون على الخزانة العامة بعد أن تجاوزت 14 تريليون دولار. وفي مثل هذه الظروف يعمل الأفراد والمؤسسات على تقليص إنفاقهم الاستهلاكي، فيتسبب ذلك في توقف نمو الناتج المحلي الإجمالي باعتبار أن الإنفاق الاستهلاكي يمثل ثُلثي الناتج في الولايات المتحدة.
والخلاصة أن وضع الاقتصاد الأمريكي بات غير مُطمئن، واستقرار سعر صرف الدولار لم يعد مضموناً في الشهور والسنوات القليلة القادمة خاصة بعد أن وصل سعره أمام الين إلى 80 يناً وهو بذلك بات قريباً جداً من أدنى مستوى تاريخي له مقابل الين. وإذا استمر التورط الأمريكي في الحروب الخارجية، وإذا ما واصل مجلس الاحتياطي الفيدرالي سياسة ضخ المزيد من السيولة في الاقتصاد فإن ذلك سيضعف من سعر صرف الدولار أكثر. وقد تنبهت بعض الدول ومنها الصين إلى هذه الحقيقة، وبدأت تتعامل معها بجدية عن طريق التنويع في استثمار الفائض الكبير المتولد من صادراتها بشراء الذهب وهو ما رفع سعر أونصة الذهب طيلة السنوات الماضية حتى وصلت مع نهاية الأسبوع الماضي إلى مستوى 1395 دولار الأونصة. ونتج عن تراجع سعر صرف الدولار أن ارتفعت أسعار السلع المختلفة قريباً من أعلى مستوياتها التي وصلتها في عام 2008، ووصل سعر نفط غرب تكساس إلى مستوى 87 دولاراً للبرميل رغم أن أوضاع النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة لا تساعد على مثل هذا الارتفاع!!
وإذن نحن في قطر وفي دول مجلس التعاون على أعتاب مرحلة جديدة، قد ينخفض فيها سعر صرف الدولار بقوة نتيجة تراكم العجوزات والديون على الإدارة الأمريكية، فما هي تبعات هذا الانخفاض على اقتصاداتنا، وأقصد بذلك على إيرادات النفط ، وعلى صادراتنا ووارداتنا، وعلى مدخراتنا واستثماراتنا، وعلى مستويات المعيشة وأسعار المستهلكين، وعلى مستقبل سعر صرف العملة المحلية. هذا ما سأحاول أن أكتب عنه في الجزء الثاني من هذا المقال الذي يصدر يوم الأربعاء القادم بإذنه تعالى. ويظل ما أكتب دائماً رأي شخصي يحتمل الصواب والخطأ، وهذه سمة بارزة في كل العلوم الاجتماعية بوجه عام وفي العلوم الاقتصادية بوجه خاص.
يعطيك العافية .. بانتظار الجزء الثاني
شكرااااا
بانتطار المقال القادم وشكرا ..يعطيك العافية