«السور» بين الأميركتين

30/01/2023 0
د. عبدالله الردادي

لو اتفقت دول أميركا الجنوبية على أمر، لكان الامتعاض من التدخل الأميركي في شؤونها، هذا التدخل يأتي بأشكال عدة، كفرض عقوبات على دول مثل فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، بل وفرض عقوبات على الدول التي تخل بهذه العقوبات كما هو الحال مع كولومبيا هذه الأيام بعد أن فتحت الحدود مع فنزويلا. ولكن دول أميركا اللاتينية ورغم خلافاتها الواضحة مع الولايات المتحدة، إلا أنها لا تستطيع الاستغناء عن الدولار الأميركي، فمعظم التبادل التجاري فيما بينها يتم عن طريق الدولار. وهو ما دفع الرئيسين البرازيلي والأرجنتيني الأسبوع الماضي إلى الإعلان عن إطلاق أعمال تحضيرية لاستحداث عملة مشتركة بين بلديهما، بهدف معلن وهو أن تكون هذه العملة بديلا للدولار. هذه الفكرة قوبلت باستهجان غربي صارخ، فوصفها كبير الاقتصاديين السابق لصندوق النقد الدولي (أولفييه بلانشار) بالجنون، واستنكرت صحيفة الإيكونيميست البريطانية بقولها «فيم تفكر هاتان الدولتان؟». فما مدى منطقية هذه الفكرة ومبرراتها؟ ولماذا تبدو في غاية الصعوبة في الوقت الحالي؟

فكرة العملة المشتركة بين البرازيل والأرجنتين ليست جديدة، فقد اقترحت في الثمانينيات الميلادية بمسمى (جاوتشو)، ولكنها انتهت مع الأزمة الاقتصادية عام 1988، وطرحت مرة أخرى قبل عدة أعوام، ولكن البنك المركزي البرازيلي رفضها عام 2019. وها هي الآن تطرح مرة أخرى، وبتوافق سياسي بين البرازيل والأرجنتين لأول مرة منذ سبعة أعوام، بتولي حكومتين يساريتين مقاليد الحكم في البلدين.

المبرر السياسي لهذه العملة غير خافٍ، فالعديد من الدول الآن تحاول تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة لا سيما مع تناقض مواقفها عند تغير حكوماتها. والرئيس البرازيلي الجديد (لولا دا سيلفا) نفسه هو أحد العقول المدبرة لمجموعة (بريكس)، لذلك فإن هذا التوجه ليس بغريب عليه. كما أن حكومات أميركا الجنوبية رأت ما حدث مع روسيا بمصادرة أكثر من 300 مليار دولار من احتياطياتها الأجنبية بعد الحرب الروسية الأوكرانية، ولا تريد أن يتكرر ذلك الأمر معها في حال اختلافها مع الغرب.

أما المبرر الاقتصادي لإنشاء هذه العملة فهو أشد منطقية من سابقه، فالتبادل التجاري بين الأرجنتين والبرازيل يتم من خلال الدولار، والبرازيل هي أكبر شريك اقتصادي للأرجنتين، أما الأرجنتين فهي ثالث أكبر شريك للبرازيل، والتبادل التجاري بينهما وصل إلى 30 مليار دولار في 2022، وقد سبق له أن وصل إلى 40 مليار دولار قبل عقد من الزمن، قبل أن تؤثر الأزمات الاقتصادية على الأرجنتين وعلى توافر العملة الصعبة لديها. ووجود عملة مشتركة بينهما قد يسهل مقارنة الأسعار للسلع، كما أنه يقي من تقلبات أسعار العملات والذي يحدث أحيانا أثناء عمليات التبادل التجاري. ولذلك فإن وجود عملة مشتركة أسهل كثيرا من التسعير ومن ثم بيع السلع بالدولار، وبعد ذلك التحويل من الدولار إلى العملة المحلية. إضافةً إلى ذلك، فإن هذه العملية مكلفة من ناحية رسوم تحويل العملات.

المقترح الحالي لعملة (سور) – وتعني الجنوب بالإسبانية - لا يطرح إيجاد عملة موحدة تلغي الريال البرازيلي والبيزو الأرجنتيني، بل يهدف إلى استحداث عملة موازية مشتركة بين البلدين، يكون التبادل التجاري عن طريقها بعيدا عن الدولار، ويكون تسعيرها باستخدام العملتين الحاليتين. ولذلك فإن الاختلاف بين هذه العملة واليورو شاسع، وتطبيقه على أرض الواقع يختلف عن مثيله الأوروبي.

إلا أن هذا التطبيق ليس بهذه السهولة، فالبلدان في وضعين اقتصاديين مختلفين، فبينما تشهد البرازيل اقتصادا مستقرا نسبيا يعد أحد الاقتصادات الناشئة الواعدة، تعاني الأرجنتين اقتصاديا على الجانب الآخر. فهي تدين لصندوق النقد الدولي بنحو 70 مليار دولار، منها 40 مليار دولار قدمت لها كحزمة إنقاذ في عام 2018، وطبقت على أساسها سياسات اقتصادية تقشفية. كما أن التضخم في الأرجنتين وصل إلى 100 في المائة العام الماضي. والبيزو الأرجنتيني خسر نحو 80 في المائة من قيمته أمام الريال البرازيلي في الأعوام القليلة الماضية. لذلك فإن استحداث هذه العملة يشكل تحديا اقتصاديا لا يمكن إنكاره، وهو سبب استهجان الغرب لهذه العملة.

إن وجود الرغبة السياسية بين البلدين هو العامل الأقوى أمام عملة الـ(سور)، هذه الرغبة تبدو عارمة الآن بين البلدين، ووزير المالية البرازيلي نفسه شارك في كتابة ورقة علمية العام الماضي عن هذه العملة. ولكن استحداثها قد يستغرق سنوات طويلة، فاليورو كان فكرة عام 1979. واستغرق الأوروبيون 19 عاماً حتى أطلقوا هذه العملة عام 1998. ولكن مجرد المقترح يعد إشارة واضحة إلى توجه دول أميركا اللاتينية بالابتعاد عن الولايات المتحدة، وهو دلالة أخرى عن الاتجاه العالمي بالانفصال الاقتصادي، فالأرجنتين كانت عضوا مراقبا في اجتماع (بريكس) الأخير وقد تنضم إليه في المستقبل، وهي مع البرازيل قد تدعو دولا لاتينية أخرى للانضمام إلى هذه العملة في حال إنشائها. ومن غير الأرجح أن تقف الولايات المتحدة ساكنة حيال ذلك، فجانب مهم من هيمنتها العالمية يأتي من أن الدولار هو العملة الأقوى في العالم، وكون التبادل التجاري يتم عن طريق الدولار يعطيها ميزات لا يمكن الاستهانة بها، وهو أمر لم تخفِ العديد من الدول كراهيته، حتى الدول الأوروبية نفسها!

 

نقلا عن الشرق الأوسط