الاستثمار في المدن الاقتصادية!

28/08/2010 3
د. قصي الخنيزي

بعد إدراج سهم شركة مدينة المعرفة الاقتصادية في السوق المالية، قد يفتح الباب لمناقشة جدوى الاسترسال في إنشاء المدن الاقتصادية بناء على دراسات جدوى قد لا تكون دقيقة. فقد بلغت خسائر المواطنين الأفراد في 24 آب (أغسطس) من عام 2010م في كل من شركتي إعمار المدينة الاقتصادية ومدينة المعرفة نحو 645.15 مليون ريال سعودي، تمثل تراجعاً في قيمة الأسهم المكتتب بها. وعند قسمة مجموع الخسارة على عدد المواطنين السعوديين، وفقاً للنتائج الأولية للتعداد العام للسكان والمساكن التي أعلنتها مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات، البالغ عددهم 18.7 مليون مواطن، فقد خسر كل مواطن نحو 34.5 ريال مقابل اكتتاب بقيمة عشرة ريالات للسهم أو ما نسبته 134.5 في المائة من قيمة استثماره، على افتراض اكتتاب جميع المواطنين السعوديين في هاتين المدينتين بسهم واحد. لذا، فهل سيتم الاسترسال بطرح باقي المدن الاقتصادية كمدينة الأمير عبد العزيز بن مساعد ومدينة جازان الاقتصادية للاكتتاب العام بالطريقة نفسها التي تم اتباعها مع المدينتين الأخريين؟

بداية، مع ارتفاع أسعار النفط خلال سنوات الطفرة الأخيرة، كان لدى صناع القرار الاقتصادي هدف نبيل يتمثل بتوزيع العوائد الاقتصادية على المواطنين من خلال عدة وسائل، أحدها قصر الاكتتاب في الشركات المؤسسة حديثاً على السعوديين. وليس بخاف على المستثمرين بأن الاستثمار في الشركات حديثة التأسيس ينطوي على درجة عالية من المخاطرة قد يزيد من تعقيدها آليات الطرح العام وطبيعة المشروع المطروح للاكتتاب وجدواه، حيث تعتبر شركات التطوير العقارية المؤسسة حديثا مرتفعة المخاطرة بالنسبة للمكتتبين الأفراد. ولا يقتصر تأثير المدن الاقتصادية وشركات التطوير العقاري على المواطنين الأفراد بل يتعداه إلى القطاع الخاص المستفيد من عمليات التعاقد والتوريد، حيث قامت الهيئة العامة للاستثمار مشكورة بدعم وتكليف شركات "ذات خبرة في مجال التطوير العقاري" كمجموعة صافولا لتطوير مدينة المعرفة الاقتصادية! وبحسب العرض التحليلي لمجموعة صافولا في مؤتمر المساهمين في كانون الثاني (يناير) 2010م، بلغ الدخل التشغيلي من النشاط العقاري نحو 17 مليون ريال سعودي في الربع الأول من 2010م، أي نحو 5 في المائة فقط من الدخل التشغيلي لمجموعة صافولا! ويشكل ذلك أعلى دخل للقطاع العقاري لمجموعة صافولا خلال السنوات الثلاث الماضية. كما يوضح الجدول التالي الدخل التشغيلي لمجموعة صافولا:

المصدر: مؤتمر المساهمين (رابط)

ويعيدنا الحديث عن المدن الاقتصادية والاستفادة من العوائد النفطية إلى عام 1975م حين قررت المملكة بناء قاعدة صناعية متكاملة تعتمد على استغلال الثروات والموارد الطبيعية المحلية ومشتقات النفط ذات القيمة المضافة، فأسست الهيئة الملكية للجبيل وينبع وتعاقدت مع شركة بكتل الأمريكية التي تعد أكبر شركة للإنشاء الهندسي في العالم لتطوير المدينتين مقارنة بالتعاقد مع "صافولا" لمدينة المعرفة. وعليه، استثمرت الدولة ممثلة في الهيئة الملكية للجبيل وينبع، وليس المواطن السعودي، ما قيمته 84 مليار ريال في عمليات تطوير مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين خلال السنوات الـ 35 القادمة. وقد أسفر هذا الاستثمار الضخم عن قيام ما يربو على 233 صناعة بلغ إجمالي استثماراتها نحو 244 مليار ريال توفر فرص عمـل لأكثر من 107 آلاف موظف وعامل. وبناء على ما سبق يكون متوسط العائد على الاستثمار في الجبيل وينبع نحو 3 في المائة خلال السنوات الـ 35 الماضية. لذلك، يبرز سؤال عن العائد المتوقع للمدن الاقتصادية التي تزيد تكلفتها المقدرة على 225 مليار ريال خلال السنوات الـ 35 المقبلة؟ فهل نتوقع من هذه التكلفة التي تزيد بأكثر من مرتين ونصف عن تكلفة تطوير مدينتي الجبيل وينبع أن توفر عوائد اقتصادية تزيد بمرتين ونصف على عوائد المدينتين وبالجودة والمكانة الاستراتيجية للمنتجات نفسها؟

وبالعودة إلى أداء أسهم المدن الاقتصادية التي تم إدراجها والخسائر التي لحقت بالمكتتبين، قد لا يكون المستثمرون الأفراد المكتتبون بصورة مباشرة هم الشريحة الأمثل للاستثمار في المدن الاقتصادية، بل المستثمرون ذوو الخبرة كالجهات والصناديق الحكومية، الذين في استطاعتهم تقديم التمويل طويل الأجل بشروط ميسرة ودعم الشركة عند الحاجة بعد اقتناعهم بالأهمية الاستراتيجية لهذه المدن وبنجاعة نموذج أعمالها. كما يشمل ذلك المستثمرين المؤسساتيين ممن لهم دراية وقدرة على تحليل وتقييم المخاطر لهذا النوع من الاستثمار وطبيعته طويلة المدى. وعليه، يأتي دور هيئة السوق المالية لدعم هكذا توجه من خلال الطرح الخاص أو المحدود للمستثمرين ذوى الخبرة ومن ثم الإدراج في تداول أو في سوق موازية؟ بهذه الطريقة يتم تفادي الطرح للاكتتاب العام وتجنيب المواطن المكتتب البسيط كثيرا من المخاطر لشركات تطوير ومدن اقتصادية ليس لها تاريخ تشغيلي سابق وتعتمد على نماذج أعمال غير مدروسة بعمق ودقة ومبنية على فرضيات ضعيفة كفرضية أكبر عدد طائرات مدنية تمر فوق إحدى المدن الاقتصادية!

وبناء على ما سبق، هل سيتم الإصرار على طرح مدينة الأمير عبد العزيز بن مساعد ومدينة جازان الاقتصادية للاكتتاب العام بطريقة أعمال المدينة الاقتصادية نفسها ومدينة المعرفة؟ حقيقة مهما كانت الإجابة، فإن من الأنجع توزيع الثروة وعوائد النفط اقتصادياً من خلال طرح عام لجزء كبير من شركات مقاولات القطاع الخاص التي تسهم في بناء هذه المدن الاقتصادية وذات السجل التاريخي الناجح، والتي تحوز حصة الأسد من عوائد النمو الاقتصادي والإنفاق الحكومي والعقود الحكومية الضخمة بالتعميد كشركتي سعودي أوجيه وشركة بن لادن للمقاولات وغيرهما لتوزيع الثروة على شريحة واسعة من المواطنين لكون المصدر الرئيس لنجاح شركات المقاولات هذه هو العقود الحكومية السعودية، وهذا أجدى من محاولة توزيع الثروة في المدى القصير باستثمارات مرتفعة المخاطرة في المدن الاقتصادية، قد وربما تنجح في المدى الطويل فقط!