تابعت باهتمام شديد التقرير الأخير الذي أصدره صندوق النقد الدولي عن الاقتصاد الاسباني والذي عندما ندقق في المؤشرات الاقتصادية الكلية فيه، نجد ان الاقتصاد بالفعل يسير نحو أزمة، ليضيف مزيدا من الوقود على النار المشتعلة حاليا في أعقاب تراجع الآمال في احتمالات خروج الاقتصاد العالمي من الأزمة بسهولةـ أو بالسرعة التي كانت الآمال تدور حولها في بداية هذا العام. لتحميل نسخة من التقرير اضغط على الرابط http://www.imf.org/external/pubs/ft/scr/2010/cr10254.pdf .
الوضع العالمي كما سبق ان أشرت في مقال سابق بعنوان "إلى أين يسير العالم حاليا" يدعو للتخوف والقلق الشديد، حيث ترتفع درجة عدم التأكد بصورة أكبر من أي وقت مضى منذ بدء الأزمة، وما زلت آمل ان تبرز في الأفق بعض بوادر التحسن، والتي يمكن ان تشكل نقطة بدء لعزم النمو الاقتصادي العالمي، وهي قليلة بالفعل حاليا، نظرا لتراكم المزيد من الأخبار السيئة، والتي كان آخرها تراجع معدلات النمو في الاقتصاد الأمريكي والتي اشر ت إليها في مقال سابق بعنوان "استمرار تراجع النمو في الناتج المحلي الأمريكي".
قبل الأزمة المالية العالمية، عاش الاقتصاد الاسباني حالة من النمو القوي يقوده رواج قطاع المساكن، وهو من القطاعات الهامة جدا في أسبانيا، فأسبانيا مثل دبي، لا تبني مساكن للأسبان فقط، وإنما تبني للعالم، ويمثل قطاع المساكن مصدرا هاما جدا للإيرادات الضريبية للدولة، غير ان هذا الرواج تعرض لكبوة ضخمة مع انطلاق الأزمة المالية في 2007، حيث تراجع النمو بشكل حاد مدفوعا بانخفاض كل من الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، وانعكست آثاره بصورة واضحة في سوق العمل.
تتمثل أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد الاسباني في ان سوق العمل لا يعمل حاليا تقريبا في اسبانيا، ذلك أن أوضح تأثيرات الأزمة في أوروبا على سوق العمل هي في اسبانيا، حيث يصل معدل البطالة في 2010 إلى 20% تقريبا، وهو معدل مخيف جدا، فمن بين كل 5 عمال هناك عامل في حالة بطالة إجبارية. ويبلغ هذا المعدل تقريبا ضعف المعدل المتوسط للبطالة في دول منطقة اليورو، ولا يمكن بأي حال من الأحوال استمرار هذه المعدلات المرتفعة جدا للبطالة لفترة طويلة من الزمن دون أن يحدث تهديد للنسيج الاجتماعي، والقدرات المالية والإنتاجية للاقتصاد، فضلا عن نمو رأس المال البشري في اسبانيا.
للأسف استنفدت أسبانيا معظم مساحة التحرك على الصعيد المالي، حيث تبخرت حزم التحفيز المالي دون ان تحدث التأثير المطلوب على النمو، مخلفة واحدا من أكبر مستويات العجز المالي في منطقة اليورو، فقد تدهورت الحسابات المالية لأسبانيا بصورة واضحة في السنوات الأخيرة، نظرا لخطط التحفيز المالي التي تبنتها، وتراجع إيرادات الدولة نتيجة لضعف قطاع العقار الذي يولد إيرادات كبيرة للميزانية العامة للدولة، ونتيجة لذلك قفزت نسبة عجز الميزانية من 2% فقط من الناتج المحلي الإجمالي في 2007، إلى 11.2% في 2009، أي حوالي 4 أضعاف الحد المسموح به وفقا لاتفاقية ماسترخت، وقد بلغت نسبة النفقات التي وجهت لعمليات التحفيز المالي أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تفوق بكثير متوسط نسبة الإنفاق على خطط التحفيز في باقي دول اليورو. ترتب على هذا الوضع قيام الحكومة الاسبانية بالاقتراض بكثافة، الأمر الذي حول أسبانيا إلى اقتصاد صاحب واحد من أكثر الديون كثافة في العالم.
الحكومة الاسبانية تحاول الآن السيطرة على العجز المالي عند معدل 3% إلى الناتج لكي تسيطر على نمو ديونها، وعلى الرغم من ان اسبانيا تتخذ من الإجراءات الجادة اللازمة للتعامل مع أوضاعها الاقتصادية الصعبة، إلا أن الصورة العامة للاقتصاد تظل تعاني من درجة كبيرة من عدم التأكد، بسبب عدم استقرار أوضاع سوق المال وضعف مستويات الطلب المحلي، وهو ما يدعو الحكومة الاسبانية لأن تكون مستعدة لاتخاذ المزيد من الإجراءات الإصلاحية، إذا دعت الحاجة، لتحقيق المستهدفات الاقتصادية الكلية المعلنة لعمليات الإصلاح الاقتصادي والمالي، وينتظر الصندوق من اسبانيا ان تشرع في إجراء إصلاحات لسوق العمل لضمان مرونة سوق العمل وارتفاع مستويات المنافسة فيه، بصفة خاصة تحتاج اسبانيا إلى إتباع نظام أقسى للتقاعد، وتبني نظم لتحديد الأجور بصورة لا مركزية، والتوقف عن عملية ربط الأجور indexation بالأسعار، لتقليل التكلفة الحقيقة لها على الميزانية، وذلك لاستكمال الإصلاحات المالية التي تم اقتراحها من قبل الصندوق، والسيطرة على نمو إنفاقها العام ورفع نسبة الإيرادات العامة للناتج. ومما يزيد حدة المخاطر هو أن جانبا كبيرا من القطاع المصرفي يتسم بالهشاشة بسبب تعرضه الكبير لسوق العقارات حيث ترتفع المخاطر بشكل واضح نظرا لانفجار فقاعة أسعار العقار التي تكونت في اسبانيا. ومن المؤكد أن ان الكساد في اسبانيا كان حادا للغاية وأطول وأكبر من أي مكان آخر في أوروبا.
للأسف الصورة المستقبلية تبدو قاتمة، بصفة خاصة على النطاق المالي، فوفقا للجدول رقم (1) لا يتوقع ان يحقق الاقتصاد الاسباني نموا موجبا في الناتج قبل عام 2011، وبمعدلات ضئيلة جدا، نظرا لتراجع نمو الاستهلاك العالم بنسبة 1.1% في 2011، وكان إجمالي الاستثمار الثابت الذي تراجع بنسبة 20% تقريبا خلال عامي 2008-2009، ويتوقع ان يستمر في التراجع بنسبة 11% حتى عام 2011، وهو ما يقضي على أي آمال بتحقيق نمو ايجابي في الناتج، على النحو الذي سبقت الإشارة إليه، ونتيجة لذلك سوف يستمر الطلب المحلي في التراجع حتى عام 2011 كما هو موضح بالجدول.
الصورة العامة تزداد سوءا عندما ننظر إلى إسقاطات المالية العامة في اسبانيا حتى عام 2015 والموضحة في الجدول رقم (2). فوفقا للجدول لا يتوقع ان تستعيد الإيرادات العامة مستوياتها التي بلغتها في عام 2007 حتى عام 2014، في الوقت الذي سوف يستمر فيه الإنفاق العام في التزايد بشكل عام حتى 2015. النتيجة الطبيعية لهذه الاتجاهات هي تصاعد عجز الميزانية العامة في اسبانيا، والذي يتوقع ان يستمر حتى 2015، وإن كان سيتراجع إلى النصف تقريبا ما بين عامي 2009 إلى 2015. لا يتوقع الصندوق ان تنجح اسبانيا في تخفيض نسبة عجز الميزانية إلى الناتج إلى نسبة 3%، معيار العجز وفقا لاتفاقية ماسترخت، حتى عام 2015، فوفقا لإسقاطات الصندوق يتوقع ان يبلغ عجز الميزانية إلى الناتج المحلي الإجمالي في 2015 نسبة 5% تقريبا. النتيجة الطبيعية لهذه الاتجاهات السيئة للمالية العامة هي استمرار تصاعد نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من36.1% عام 2007 إلى 84.3% في 2015. إنها بالفعل صورة مقلقة لاقتصاد على أعتاب أزمة.
مايحصل هو تأجيل للكوارث لاطول مدة ممكنة .... حال امريكا لايختلف كثيرا عن اسبانيا بل هو اسوء ... الا ان الاعلام الرسمي المضلل يحاول اللعب على عامل الزمن للخروج من الازمة ... فلم يعد بالامكان اكثر مما كان ... 2011م سيكون عاما حاسما وستظهر فيه الحقائق جلية لالبس فيها ....