في منهجيات حوكمة الشركات تستخدم الديون أداةَ ضبط من مجالس الإدارات لمراقبة مديري الشركات، والتأكد من حصافة الإنفاق، لتكون الديون وسيلةَ ضغط على المديرين لتحسين الكفاءة وخفض التكاليف وتجنب الاستثمارات المغامرة، والفكرة الأساسية هنا أن الديون تُقلل الترف الإداري، وتمنع إساءة استخدام الموارد، هذه هي الحال في الشركات، ولكن ماذا عن الحكومات؟ هل يمكن تطبيق المبدأ نفسه في استخدام الديون السياديّة أداةً لضبط الحكومات؟ هذا بالضبط ما تطرحه بعض الأدبيات العلمية التي تقدم، وبكل جرأة، فكرة أن الديون السيادية تحولت من أداة تنموية إلى أداة ضبط للحكومات، وتمكّنت من الضغط على الحكومات للتصرف وفق منهجية محددة قد لا تكون بكل حال في مصلحة الدول، وعلى الرغم من أن طرح المؤلف لا يخلو من نظرية مؤامرة، فإنه يحمل بعض الحقيقة التي لا يمكن إغفالها.
عندما بدأ النظام المالي العالمي بشكله الجديد بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد اتفاق «بريتون وودز» الشهير، الذي كان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من نتائجه، كانت الدول تقترض بهدف النمو، واستمر ذلك طيلة ما يُسمى «عصر النهضة الرأسمالية» منذ 1944 حتى 1973، ولكن هذا الاتفاق انهار في السبعينات الميلادية، وحدث بعدها عدد من الانهيارات الاقتصادية في أميركا اللاتينية، وهنا تُبيّن الأطروحة حدثاً مهماً غيَّر مفهوم الديون السيادية، فخلال هذه الفترة برزت مصطلحات مثل «برامج الإصلاح» و«التكيف الهيكلي»، بوصفها شروطاً مسبقة للحصول على التمويل، وعند هذه اللحظة لم يعد الدَّين مسألة سداد فقط، بل أصبح مدخلاً لإعادة هندسة الاقتصادات الوطنية، وتحولت العلاقة بين الدائن والمدين إلى علاقة غير متكافئة، يمكن للدائن من خلالها فرض الشروط على الدول، وأصبحت الدول المَدِينة تسعى للبقاء داخل النظام المالي العالمي.
في هذه الفترة بدأ مفهوم السيادة الاقتصادية المقيّدة، وهو أن تؤدي الديون إلى تآكل السيادة الاقتصادية دون الحاجة إلى تدخل سياسي مباشر، فالدول المَدينة قد تظل مستقلة رسمياً، لكنها عملياً مقيّدة بخيارات ضيقة، لأن أي انحراف عن «الخط المالي المقبول» يُقابل بعقوبات غير معلنة مثل رفع تكلفة الاقتراض، وخفض التصنيف الائتماني، أو هروب رؤوس الأموال، وهنا توضح الأطروحة أن ملكية النظام المالي العالمي ليست بين مجموعة محايدة من الفاعلين، بل هي بيد منظومة هرمية تتصدّرها المؤسسات المالية الدولية -مثل صندوق النقد والبنك الدولي- والدائنون الرسميون والأسواق المالية الخاصة ووكالات التصنيف الائتماني، وهذه الجهات هي المُحدد للخط المالي المقبول، وهي القادرة على معاقبة الدول بشكل غير علني، والزعم هنا بأن هذه الجهات لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل ضمن نظام متكامل لـ«تأديب الدول المَدِينة»، وهو اتهام خطير دون شك، ويؤيد هذا الطرح التصنيف الائتماني الذي يوصف بأنه ليس مجرد تقييم تقني للمخاطر، بل أداة سياسية تؤثر مباشرة في تكلفة الاقتراض، وتستخدم للضغط على الحكومات لتبني سياسات بعينها.
من هذه السياسات سياسة التقشف التي أصبحت تعد استجابة «ضرورية» للأزمات المالية، وتذهب الأطروحة بعيداً لتصف التقشف بأنه ليس مجرد سياسة مالية فنية، بل آيديولوجيا اقتصادية تُفرض على الدول المَدينة باسم الاستقرار المالي، وذلك بإجبارها على خفض الإنفاق العام وتقليص الدعم وخصخصة الخدمات وتحرير الأسواق، وهي سياسات لا تهدف في جوهرها إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية طويلة الأجل، بل إلى ضمان سداد الديون وحماية مصالح الدائنين، ونتيجة ذلك هي تآكل الخدمات العامة، وتراجع الاستثمار في الصحة والتعليم، وتفاقم عدم المساواة لأجل مصلحة المنظومة الهرمية المذكورة سابقاً، وترتبط هذه الظاهرة بالحركة الشعوبية التي زادت في الآونة الأخيرة، بوصفها ردة فعل على شعور عميق بأن القوة لم تعد في يد الشعوب أو الحكومات المنتخبة، بل في يد منظّمات دولية وقوى مالية غير منتخبة، ولذلك فإن الشعوبية في أوج أشكالها ترفض المنظمات الدولية وسلطتها كما فعل (ترمب) مع منظمة التجارة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية.
إن النظام المالي العالمي بترابطه الحالي يجعله سريع التأثر بالانهيارات الاقتصادية، ولذلك فإن الأزمة الاقتصادية في أي دولة ستتعدى على أغلب الأحوال حدودها إلى دول أخرى، وهو ما يستدعي التنسيق بين الدول من خلال أطراف ثالثة، ولكن سلطة المنظمات الدولية بشكل عام، والمنظمات الدولية المالية بشكل خاص على الدول لا يمكن التغاضي عنها، فهي توصف بأنها مؤسسات مستقلة، وتستقي موثوقيتها من هذه الاستقلالية، ولو ضربت هذه المصداقية فقد يقود ذلك إلى حالة من التمرد لا تحمد عقباها، والأطروحة بشكل عام تطرفت في وجهة نظرها، وأجحفت في دور بعض المنظمات الدولية، ومع ذلك فهناك ضرورة تضمين وجهات النظر لجميع الدول لدى المنظمات الدولية حتى لا تصبح التوجهات الاقتصادية ذات طابع واحد، وحتى لا تُتهم هذه المنظمات بأنها أداة لتقييد الدول وضبطها.
نقلا عن الشرق الأوسط


