أصبحت الأسواق المالية في عالم اليوم أكثر حساسية من أي وقت مضى، وأصبحت ردود فعل السوق لأي أنباء ترد إليها مغالى فيها بصورة ملفته للنظر، بالشكل الذي يصعب معه التفرقة بين المسار الطبيعي للمؤشرات الاقتصادية والمالية، والمسار الذي تصنعه ردود فعل الأسواق لأي معلومة تظهر على السطح. صحيح أن آثار ردود فعل السوق يتم تنقيتها فيما بعد في المؤشرات المختلفة، إلا أن آثار ردود الفعل هذه قد تكون مدمرة، على الأقل في الأجل القصير. اليوم يمر اليورو بمرحلة ضعف نظرا للضغوط الناجمة عن أزمة الديون السيادية في أوروبا، وبدأ الحديث عن انكفاء العملة الدولية التي كانت مرشحة لأن تنافس الدولار، وأخذت بعض البنوك المركزية تعيد حساباتها مرة أخرى فيما يتعلق بالتشكيلة المثلى لاحتياطياتها بعيدا عن اليورو، بل لقد بلغ الأمر بالبعض في حساب العد التنازلي لاختفاء اليورو من الساحة الدولية للنقد الأجنبي وهو تصور ربما يكون متطرفا بعض الشيء، ولكن هل ضعف اليورو أمرا سيئا كله، وهل يمثل تراجع اليورو تصحيحا لمعدل صرف اليورو نحو قيمته العادلة، وهل فعلا أخذ ضوء اليورو في الأفول وأن العالم قد أخذ بالفعل في التخلي عن اليورو؟ وجهة نظري باختصار هي أنه ليس هناك خوف على اليورو كعملة ابتداء، وربما يكون الضعف الحالي لليورو في صالحه. سوف أحاول في هذا المقال أعرض بعض ملاحظاتي الأساسية حول اليورو.
الملاحظة الأولى: ضعف اليورو ربما يكون سيئا للمستثمرين ولكنه أمر جيد لمنطقة اليورو.
لفترة طويلة من الزمن كانت الشركات الأوروبية تشكو من قوة اليورو وضعف الدولار، وأن تراجع الدولار أمام اليورو يضع هذه الشركات في موقف تنافسي ضعيف أمام الشركات الأمريكية المنافسة، وأهم هذه الشركات كانت شركة الايرباص الأوروبية. اليوم يتراجع اليورو أمام العملات العالمية، على سبيل المثال تراجع اليورو بحوالي 20% أمام الدولار والين، وحوالي 7% أمام الاسترليني، ولا شك أن هذه التطورات رغم أنها تحمل أخبارا سيئة للمتعاملين في اليورو، إلا أنها تصب في صالح التنافسية الأوروبية، بما في ذلك تنافسية الدول التي تواجه ضغوطا مالية كاليونان وأسبانيا. تدفقات البيانات التي تأتينا من هيئة الإحصاءات الأوروبية تشير إلى أن الصادرات الأوروبية آخذة في التعافي خصوصا الصادرات الألمانية والفرنسية، ومن ثم تزايد فوائض موازين المدفوعات الأوروبية، ففي ابريل حقق ميزان الميزان التجاري الألماني فوائض بحوالي 50 مليار يورو، مقارنة بـ 37 مليار في ابريل من العام 2008، ومما لا شك فيه أن الفوائض في الميزانين التجاريين الألماني والفرنسي تؤدي إلى انتعاش هذين الاقتصادين، وبما أن هاتين الدولتين هما الدولتان الرائدتان اقتصاديا في الاتحاد الأوروبي، فلا شك ان ذلك سوف ينعكس بصورة ايجابية على الأداء الاقتصادي لباقي دول الاتحاد الأوروبي التي ترتبط بعلاقات تشابكيه مع هاتين الدولتين.
لقد كشفت الأزمة عن ان دولا مثل اسبانيا واليونان سمحت لمستويات الأجور فيها ان ترتفع بصورة أعلى من معدلات نمو الإنتاجية فيها، مما اثر على التنافسية الدولية لهذه الدول. اليوم يسهم تراجع اليورو في رفع تنافسية هذه الدول. كذلك يؤدي الدولار القوي إلى تشجيع الطلب السياحي في أوروبا بصفة خاصة الدول التي تقع على البحر المتوسط، على سبيل المثال تزايدت طلبات الحجز من جانب السياح الأمريكيين على مراكب Silversea Cruises بصورة واضحة في الأشهر الأخيرة. من ناحية أخرى تمكنت شركة مرسيدس بنز من زيادة مبيعات سياراتها بنسبة 22% في الولايات المتحدة في الأربعة اشهر الأولى من هذا العام، وعلى الرغم من أنه قد يكون من الصعب ان نفصل سبب هذه الزيادة بين استعادة النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة أو ضعف اليورو، إلا أنها ولا شك علامات جيدة للاقتصاد الأوروبي.
انخفاض اليورو لم يكن إذن شرا كله، بل حمل ضعف اليورو أثرا ايجابيا على الاقتصاد الأوروبي، وليس كما يتصور البعض بأن ضعف اليورو أمر سيئ على طول الخط، ومن ثم فإن تراجع اليورو بشكل أكبر عما هو عليه حاليا، ربما سيكون أمرا مرحبا به في منطقة اليورو، لأنه سوف يساعد تنافسية الدول الأعضاء في المنطقة، إلا إذا ترتب على انخفاض قيمة اليورو ضغوطا تضخمية وارتفاعا في المستوى العام للأسعار داخل المنطقة، وحتى هذه اللحظة ليس هناك اثر لانخفاض قيمة اليورو على ارتفاع المستوى العام للأسعار في الدول الأعضاء. وأخذا في الاعتبار هذه الآثار الايجابية لضعف اليورو على مستويات الطلب الكلي في منطقة اليورو، أتوقع أن نشهد ارتفاعا في معدلات نمو الناتج المحلي الحقيقي في المنطقة بدءا من الربع الثاني في هذا العام، وكانت النتائج التي نشرها مكتب الإحصاءات الأوروبي تشير إلى ان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من العام قد بلغ 0.8% فقط، وهو أداء متواضع جدا.
الملاحظة الثانية: أن معدل الصرف 1.2 دولارا لليورو ربما يكون سعرا عادلا لليورو.
من الناحية التاريخية كان أدنى سعر بلغه اليورو بالنسبة للدولار و 0.8230 دولارا، وهو ما يعني ان السعر الحالي لليورو والذي يرتفع قليلا عن 1.2 دولارا، يرتفع عن هذا المعدل بأكثر من 40%. أما أقصى سعر بلغه هو حوالي 1.56 دولارا، وبالنظر إلى الاتجاه العام لسعر اليورو بالدولار، فان معدل الصرف 1.2 دولارا لليورو ربما يكون أقرب إلى السعر العادل لليورو، بل إن البعض يرى أنه ربما يكون سعرا مبالغ فيه قليلا، ومن ثم مازال هناك مجال للتصحيح السعري على نطاق ضيق، حيث يرى البعض ان معدل الصرف 1.18 دولارا هو السعر العادل لليورو بالنسبة للدولار. التراجع الأخير لليورو بالنسبة للدولار يمثل إذن تصحيح سعري له لكي يقترب من قيمته العادلة في مقابل الدولار.
غير أنه تجدر الإشارة إلى أن استمرار اليورو في الصمود حول هذا المستوى من معدل الصرف مع الدولار في ظل الأداء الاقتصادي المتواضع لمنطقة اليورو، لا شك يعكس أداء جيدا لليورو، ويعزز من قوته، أخذا في الاعتبار ان اليورو يواجه أقسى الأزمات التي تعرض لها منذ إطلاقه وأخذا في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية السائدة في منطقة اليورو. ولا شك أن خروج اليورو من الأزمة الحالية سوف يعزز من المكانة الدولية له، ويوسع من نطاق المنافسة بينه وبين الدولار على صعيدي تسوية المعاملات التجارية والمالية الدولية وكمكون أساسي في الاحتياطيات الدولية.
الملاحظة الثالثة: أن أزمة اليورو مثلت فرصة لمراجعة سياسات الدول الأعضاء.
أبرزت مشكلة اليونان طبيعة الإفراط المالي الذي كانت تعيشه بعض الحكومات في منطقة اليورو، وذلك على حساب زيادة مستويات الدين العام، وعندما وقعت الأزمة تولت الأسواق مهمة لفت نظر حكومات الدول الأعضاء في اليورو إلى خطورة استمرار الأوضاع المالية الحالية على حالها بدون أي تدخل لإجراء الإصلاحات المالية والهيكلية اللازمة في الدول الأعضاء، للحيلولة دون تدهور أوضاع الأزمة وللحيلولة دون نشوء أزمة من نوع آخر. لم تجرؤ الحكومات الأوروبية سابقا على التعامل مع هذه المشكلات المالية الهيكلية، لان العلاج سوف يكون غير مقبول شعبيا فضلا عن آثاره الاجتماعية العميقة، وهو ما قد يؤثر على شعبية تلك الحكومات لدى الناس، غير أن معطيات الأمور قد تغيرت بعد نشوء الأزمة.
على سبيل المثال تبنت حكومات اسبانيا والبرتغال وايطاليا برامج للتقشف بهدف السيطرة على الإنفاق العام والحد من العجز في الميزانيات العامة لها، وعلى الرغم من تزايد الرفض الشعبي لهذه البرامج إلا أن الحكومات الأوروبية مصممة على المضي في الإصلاح المالي، حتى ألمانيا والتي لا تواجه مثل هذه الضغوط التي تواجهها باقي دول أوروبا تبنت برنامجا يشمل حزمة تقشف تصل إلى حوالي 80 مليار يورو لتحسين أوضاعها المالية وللحيلولة دون تفاقم عجز الميزانية الذي يدور حاليا حول معدل 5% من الناتج المحلي الإجمالي. بل ان ألمانيا دعت باقي الدول الأعضاء إلى ضرورة تبني قواعد قانونية تحد من نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي عند الحدود المتفق عليها في اتفاقية ماسترخت، وهي أن يكون الحد الأقصى لعجز الميزانية بالنسبة للناتج المحلى الإجمالي عند نسبة 3%.
الملاحظة الأخيرة: لا أرى أي قلق على مستقبل اليورو.
يتزايد الحديث بشكل مكثف عن مستقبل اليورو، وتتحدث بعض وجهات النظر عن انتهاء عصر اليورو كعملة أوروبية، وان المسألة مسألة وقت قبل ان نتعامل في اليورو في سوق عملات الانتيكة، على سبيل المثال في استبيان أجرته صحيفة التليجراف البريطانية أشارت نتائج الاستبيان ان اليورو سوف ينتهي كعملة خلال خمس سنوات. شخصيا أرى ان هذه التوقعات مبالغ فيها، ولا تستند إلى أساس، وأنه لا توجد دلائل قوية على الأرض توحي بقرب انتهاء عهد اليورو، فالبيانات التي تأتينا من البنوك المركزية الرئيسية في العالم والتي زادت احتياطياتها من اليورو نتيجة ضعف الدولار مثل البنك المركزي الصيني والروسي لا تشير إلى تراجع احتياطيات اليورو لديها على النحو الذي ينبئ بحدوث كارثة لليورو.
من وجهة نظري، اليورو كعملة أوروبية ودولية سوف يستمر معنا، ولكني أرى انه يجب على دول منطقة اليورو ان تتعامل مع أهم تهديد يواجه اليورو حاليا، وذلك بصورة أكثر جدية، وهو الرغبة المحمومة من قبل الدول الأعضاء في منطقة اليورو في التوسع، ومن ثم إضافة دول قد لا تكون لديها استدامة مالية بالصورة التي تضمن عدم نشوء ضغوط على اليورو في المستقبل. أعتقد ان دول منطقة اليورو في حاجة ماسة إلى مراجعة شروط الالتحاق وتعديل اتفاقية ماسترخت بما يضمن نظاما أكثر اعتمادية لليورو، بل والطلب من بعض الدول الأعضاء الحاليين في اليورو بالخروج منه لكي تضمن عدم تصاعد الضغوط على اليورو في المستقبل.