لم تعد الشعوبية الغربية ظاهرة انتخابية عابرة، بل تحولت إلى قراءة اقتصادية بديلة للنظام العالمي الذي تشكل نهاية الحرب الباردة. هذه القراءة تنطلق من تشكيك جذري في العولمة التي وعدت الجميع بالرخاء وانتهت إلى إعادة توزيع الثروة والفرص على نحو غير متكافئ. هذه السردية الشعوبية ترى أن العولمة لم تُضعف الدولة فحسب، بل أعادت هندسة الاقتصاد لمصلحة النخب المالية والشركات العابرة للحدود على حساب الطبقة المتوسطة التي فقدت أمنها الوظيفي واستقرارها الاجتماعي، ومن هنا، لم تعد القضايا الاقتصادية مثل التجارة والاتفاقات الدولية والهجرة وحتى المناخ ملفات تقنية، بل ساحات صراع سياسي تُستخدم لإعادة تعريف من يخدمه الاقتصاد، ولمن تُكتب قواعده.
تقدم الشعوبية نفسها باعتبارها مشروع تصحيحٍ اقتصادي يعيد الاعتبار للسيادة، ويضع الدولة في مواجهة الأسواق، ويحمي الداخل من صدمات الخارج، هذا هو الإطار العام للشعوبية، وتتباين الدول في نظراتها الداخلية، فبينما قدم الرئيس ترمب نموذجاً ملهماً للتيارات الشعوبية في العالم، عبر كسر المحظورات السياسية، ومهاجمة العولمة والمؤسسات الدولية بلغة صدامية مباشرة ومفهومة لعموم الجمهور، فإن كل دولة اتخذت مساراً مختلفاً في توجهها الشعوبي حسب ما يخدمها، والحديث هنا تحديداً عن الدول الغربية ذات التوجهات المتقاربة نسبياً في قضايا مثل العولمة والهجرة والمناخ والحمائية الاقتصادية.
في أميركا، وجه ترمب خطابه الاقتصادي إلى العمال في الولايات الصناعية المتراجعة، حيث جرى تصوير العولمة بوصفها السبب الرئيس لنقل المصانع إلى الخارج وتآكل القاعدة الصناعية الأميركية، وانعكس ذلك في تبنّي سياسات حمائية واضحة، مثل فرض الرسوم الجمركية وإعادة التفاوض على الاتفاقات التجارية، واستخدام التجارة سلاحاً سياسياً، وفي ملف المناخ، قدّمت الشعبوية الأميركية التحول الأخضر باعتباره تهديداً مباشراً للوظائف والنمو، خصوصاً في قطاعات الطاقة والصناعة الثقيلة، أما الهجرة، فجرى ربطها اقتصادياً بالبطالة وضغط الأجور، رغم تعقيد العلاقة الفعلية بين الظاهرتين، وبفعل هذا الخطاب، أعاد ترمب شرعنة فكرة أن الدولة يمكنها الانسحاب من القواعد الاقتصادية العالمية وإعادة صياغتها وفق منطق المصلحة الوطنية، وهو ما شجّع حركات شعوبية أخرى على تبني النهج ذاته.
أما في فرنسا، فقد اتخذت الشعوبية الاقتصادية طابعاً مختلفاً وأكثر التصاقاً بفكرة دولة الرفاه، فالخطاب الشعوبي الفرنسي موجّه إلى الطبقة العاملة والريف الصناعي الذي يشعر بأنه الخاسر الأكبر من السوق الأوروبية المفتوحة، والعولمة تُقدَّم هناك ليس فقط باعتبارها تهديداً للاقتصاد الوطني، بل نقض لنموذج اجتماعي يقوم على الحماية والتضامن.
والشعوبية الفرنسية لا تنكر قضايا المناخ، كما هو الحال في الولايات المتحدة، وهي متأثرة إلى حد ما بالموقف الأوروبي شبه الموحد في هذا الشأن، لكنها ناقدة بشدة لتكاليف التحول الأخضر على الأسر ذات الدخل المحدود، أما الهجرة فتُربط اقتصادياً بالضغط على نظام الرفاه والخدمات العامة، بينما تُنتقد الاتفاقات الدولية والاتحاد الأوروبي بوصفهما يفرضان منافسة غير عادلة على العمال الفرنسيين، ورغم تراجع التيار الشعوبي الفرنسي عن الدعوة للخروج من اليورو، فإن النزعة الحمائية تبقى حاضرة عبر الدفاع عن الصناعات الوطنية وأولوية الشراء المحلي.
وفي إيطاليا، تظهر الشعوبية الاقتصادية في صيغة أكثر تكيّفاً مع الواقع المؤسسي الأوروبي، فالخطاب هناك موجّه إلى الطبقة المتوسطة ورواد الأعمال الصغار، ويركز على استعادة الكرامة الاقتصادية دون قطيعة كاملة مع الاتحاد الأوروبي، وتنتقد العولمة باعتبارها عملية غير متوازنة، لا باعتبارها شراً محضاً، وفي ملف المناخ، تتبنى الحكومة الإيطالية مقاربة حذرة، فهي تقبل بالأهداف البيئية، لكنها تطالب بتخفيف الوتيرة وحماية التنافسية الصناعية، وتُطرح الهجرة قضية سيادية واقتصادية في آن واحد، مع اعتراف ضمني بحاجة الاقتصاد الإيطالي إلى العمالة، أما الاتفاقات الدولية، فلا تُرفض من حيث المبدأ، بل يُعاد تأطيرها بما يخدم المصالح الوطنية، في إطار حمائية دفاعية لا صدامية.
أخيراً في ألمانيا، تتجسد الشعوبية الاقتصادية بوصفها احتجاجاً أكثر من كونها برنامجاً متكاملاً، والخطاب الألماني الشعوبي من خلال حزب «بدائل لألمانيا» موجّه إلى الطبقة المتوسطة القلقة على مدخراتها، وإلى مناطق الشرق التي شعرت بالتهميش بعد التحولات الاقتصادية، وينظر هذا التيار إلى اليورو كعبءٍ يتحمله المواطن الألماني لصالح دول أخرى، ويعارض هذا الحزب بشدة سياسات البنك المركزي الأوروبي، وبينما تقف ألمانيا إحدى أبرز الدول الداعمة للتحول الأخضر، فإن الموقف الشعوبي هو الأكثر تشدداً من الضفة الأخرى، إذ يُنظر إلى تحول الطاقة باعتباره تهديداً مباشراً للصناعة الألمانية والتنافسية.
في المحصلة، يتضح أن الشعوبية الغربية، رغم انطلاقها من سردية اقتصادية واحدة تقوم على نقد العولمة والدفاع عن الاقتصاد الوطني، ليست كتلة متجانسة ولا مشروعاً اقتصادياً موحداً، فالتشابه في الخطاب يخفي خلفه تباينات عميقة في الممارسة، تفرضها بنية كل اقتصاد، وحدود كل دولة داخل النظام الدولي، ففي حين استخدمت الولايات المتحدة الشعوبية أداةً صداميةً لإعادة كتابة قواعد التجارة والاقتصاد العالمي، أعادت فرنسا توظيفها للدفاع عن دولة الرفاه، واختارت إيطاليا مسار التكيّف الحذر مع الإطار الأوروبي، بينما بقيت الحالة الألمانية أسيرةَ الاحتجاج أكثر من القدرة على تقديم بديل اقتصادي متكامل، بذلك تكشف اقتصاديات الشعوبية الغربية عن مفارقة مركزية: فهي تعبّر عن أزمة حقيقية في النظام الاقتصادي العالمي، لكنها لا تقدم بالضرورة حلولاً واحدة أو مستدامة، بل تعكس محاولات وطنية متباينة لإدارة الغضب الاقتصادي أكثر من كونها رؤيةً متماسكةً لإصلاح الاقتصاد العالمي.
نقلا عن الشرق الأوسط


