بعد الحرب العالمية الثانية ركزت أوروبا الغربية على التنمية والعودة للنهوض باقتصاداتها ومجتمعاتها نحو آفاق جديدة بعيدة عن الحروب فشكلت تجمع الاتحاد الأوروبي وأصبحت مع أمريكا تشكل أهم حلف عسكري وأمني بالعالم تحت ما سمي اختصارا بالناتو واستفادت من إرثها الاستعماري لتكون قوة سياسية كبرى عالميا ولها مقعدان دائمان في مجلس الأمن لكل من فرنسا وبريطانيا اللتين تختلفان في بوصلتيهما بتوجهاتهما عن أوروبا في بعض الملفات والسياسات المهمة وتتفقان فيها مع أمريكا فهي تبني نهجها بأسلوب مختلف عن أوروبا، بل انسحبت من الاتحاد الأوروبي لتضع لنفسها مسارا اقتصاديا مستقلا، لكن بالعودة لدول الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي فإن ملامح تغيير قواعد اللعبة الدولية بدأت منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991.
واعتقدت القارة العجوز أن هذه هي فرصتها لتوسع من حجم اتحادها وكذلك من تمدد حلف الناتو أوروبيا حتى يصل لحدود روسيا التي يخشون من أن تفكر بالعودة لتأسيس إمبراطورية عظمى توسعية من جديد رغم أنهم يرونها فعليا مصدرهم الأول لاستقرار إمدادات الطاقة والمعادن بتكاليف زهيدة إضافة للإنتاج الزراعي الكبير فيها إلا أن تراخي دول الاتحاد الأوروبي في إعادة بناء استراتيجية مستقلة عن أمريكا وضعهم أمام تحدٍ كبير بعد أن اندلعت حرب روسيا على أوكرانيا فقد اضطروا للوقوف بوجه ما عدوه تمدد روسيا مما يعني أن الخطر قد يوال دول أخرى مستقبلا إضافة إلى أنهم وضعوا عقوبات اقتصادية ضخمة كي يرهقوها فتوقفت الحرب وكان من أهمها وقف استيراد النفط والغاز الروسيين وهو ما رفع تكاليف الطاقة بشكل كبير أرهق مصانعهم ورفع من تكلفة المعيشة وهدد استقرارهم الاقتصادي وتحركوا لإيجاد البديل ولكن كانت التكاليف مضاعفة فاعتمدوا على حليفهم الأمريكي الذي باعهم الغاز بأربعة أضعاف سعر بيعه في أمريكا، بل إن ترمب يطالبهم حاليا باستيراد المزيد من الغاز والنفط لتقليص فجوة العجز التجاري بين أوروبا وأمريكا لصالح الأولى.
إلا أن الأخطر على أوروبا ظهرت فقط ملامحه الأولى فاستراتيجيتهم لأمن الطاقة باتباع مزيج تشكل فيه الطاقة المتجددة النسبة الكبرى اتضح أنه غير مجدٍ ولا يمثل أمانا كاملا وأن الطاقة التقليدية هي الضمانة لتحقيق استقرار إمدادات الطاقة إضافة إلى فرض الرئيس ترمب لرسوم على واردات أوروبية لأمريكا سيمثل ضربة كبيرة جدا لشركاتها لأن أمريكا أكبر سوق لها كما أن مطالبته أوروبا بزيادة إنفاقها بالناتو وأن عليها مسؤولية أكبر لحماية أمنها شكل صدمة أفاقتهم من حالة السبات التي طغت عليهم بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس الناتو الذي تعد أمريكا هي الفاعل الحقيقي الأكبر فيه وبات من الضروري أن تقوم أوروبا ببناء جيوشها من جديد وزيادة إنفاقها العسكري ورفع مستوى الجاهزية القتالية وتعبئة المستودعات بمختلف أنواع الأسلحة وأن تسارع الخطوات لتطوير منظومتها الدفاعية وصناعاتها العسكرية والأهم هو وضع استراتيجية جديدة لتحالفاتها وسياساتها وشراكاتها ومصالحها بعيدا عن أمريكا التي تتحرك هي الأخرى بعيدا عنهم وهدفها تحجيم منافسيها بل إنها تنظر بوقتنا الحالي لأوروبا منافسا أكثر من أنها حليف فيما يقع تركيزها على تحجيم توسع الصين تجاريا وكذلك مجموعة بريكس عموما ويشكل الحفاظ على مكانة الدولار كعملة احتياط أولى بالعالم أكبر تحدٍ وجودي لأمريكا وهي ترى بعملة اليورو أكبر منافس موثوق لدولارها ولذلك فإن أوروبا تعيش مرحلة تمثل لحظة مواجهة الحقيقة بأنها مطالبة بالابتعاد بسياساتها عن أمريكا وأن تنسى الاعتماد على واشنطن في أمنها والدفاع عن مكتسباتها.
أوروبا امام مرحلة تاريخية إما أن تستفيد من تطور اقتصادها وتقدمها العلمي وتاريخها السياسي ومكانتها الدولية فتتحرك بخطوات أسرع لبناء نهج جديد تماما تلعب دورا إيجابيا مؤثرا أكثر بالعالم وتبني شراكات عميقة مع دول الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا فهي أقرب لهم جغرافيا وهناك علاقة تاريخية تجمعها معهم أو أن الفرصة ستفوتها تماما وتبقى الكفة لصالح أمريكا إضافة للأقطاب الجدد خصوصا الصين التي وضعت لنفسها نهجا مختلفا مبنيا على الشراكات التجارية عبر مبادرة الحزام والطريق فما هي مبادرة أوروبا التي ستعطيها مكانا منافسا للقوى الكبرى بالعالم أم أنها ستبقى تسبح في فلك مرحلة ما قبل تفكك الاتحاد السوفيتي التي انتهت وأصبحت من الماضي.
نقلا عن الجزيرة