يبقى الحكم على جودة المنتجات والسلع والخدمات من ناحية نوعية شأناً نسبياً يرتبط بمعايير عملية وعلمية وجودة وأداء يتم المقارنة بها لتقدير مستوى الجودة المستهدف، أي أن الحكم على الجودة والنوعية يرتبط بمعيار المقارنة أولاً وأخيراً كون الحكم المطلق صعبا في الأمور النوعية مقارنة بالحسابات الكمية, خصوصاً مع وجود عدد هائل من المنتجات والسلع في أي اقتصاد. وبناء على نسبية الحكم على الفروق النوعية،تتفاوت جودة المنتجات والسلع والخدمات المعروضة في أي اقتصاد تبعاً لعدة محددات منها مستوى الوعي والثقافة الجمعية الاستهلاكية، ومن أهمها المتطلبات النظامية التي تسنها الجهات التشريعية والتنظيمية وتنص عليها القوانين والأنظمة، تطبيق هذه المتطلبات التنظيمية والتشريعية،ومستوى المنافسة.
أما التحكم في السلع المستوردة فيؤثر في مستويات الجودة تبعا لحجم الاعتماد على السلع والمنتجات الخارجية والقدرة على إخضاعها لمعايير الجودة المقبولة بحدها الأدنى بشكل يجب أن يتطابق مع معايير الجودة للسلع المنتجة محلياً، أي أن معايير الجودة للسلع والمنتجات التي تنتجها المصانع المحلية هي بالأهمية ذاتها للمنتجات المستوردة, لأن جميع السلع والمنتجات ستستهلك محليا في نهاية المطاف.
ومن أبرز الجهات الرسمية التي تقوم بوضع المتطلبات النظامية والقوانين المرتبطة بمستويات جودة المنتجات في السوق السعودية, تأتي الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس, التي تنص رسالتها على ''حماية المستهلك وضمان المصلحة العامة من خلال إصدار المواصفات القياسية ونظم الجودة وتطبيقها'', إلا أن مهام الهيئة كما يوضحها النظام الأساسي للهيئة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/10 بتاريخ 3/3/1392هـ لا يتضمن الإشارة إلى الهيئة في تطبيق المواصفات القياسية ونظم الجودة, ما يفسر الدور الضئيل للهيئة في حماية المستهلك من السلع الرديئة والمقلدة.
وهذا ما تم إيضاحه في الحوار الذي أجرته الزميلة ''الرياض'' يوم الإثنين الماضي 5/7/2010 مع الدكتور خالد الخلف المدير السابق للهيئة,الذي أشار إلى أن ''تطبيق المواصفات والمقاييس ليس مسؤولية الهيئة، لأن الهيئة فقط جهة تشريعية تضع المواصفة وطرق الاختبار المناسبة وتوزعها على الجهات الرقابية، والجهات بدورها تقوم وتتولى تطبيقها والإشراف عليها والالتزام بها ـ ومع الأسف ـ تطبيق المواصفات القياسية السعودية عندنا لا يزال ضعيفاً'', ملقياً اللوم على الدور الضعيف للجهات الرقابية, وعلى رأسها وزارة التجارة والصناعة والهيئة العامة للغذاء والدواء ووزارة الزراعة.
إذن، مواصفات ومقاييس الجودة وأنظمتها موجودة إلا أن تطبيقها من الجهات الرقابية هو الحلقة المفقودة نظراً لكون الالتزام والمطابقة مع المقاييس أمرا اختياريا متروكا لمنشآت الأعمال ومدى اقتناعها بأهمية الالتزام وتأثيره الإيجابي في أداء المنشأة.
حقيقة، إن الطبيعة الاختيارية للالتزام بمعايير الجودة بجانب الدور الرقابي الضعيف يؤديان إلى أن يكون الالتزام وتطبيق تنظيمات الجودة مرتبطاً بالعائد الاقتصادي وكل ما يؤثر في العائد على الاستثمار لمنشآت الأعمال إضافة إلى الرؤية الإدارية لكل منشأة. فعلى سبيل المثال،حين يكون الالتزام بمعايير الجودة مؤثراً في تنافسية منتج معين من ناحية تخفيض التكاليف أو زيادة الحصة السوقية، فإن المتوقع التزام المنشأة بمعايير الجودة والعكس صحيح.
وبدرجة مشابهة، يؤثر هيكل السوق لمنتجات معينة في مدى التزام منشآت القطاع الخاص بالمعايير تبعاً لمستوى المنافسة وتأثيراتها المختلفة, حيث إن الطبيعة الاحتكارية لأحد المنتجات قد تؤدي إلى عدم الالتزام بمعايير الجودة في أحيان, وقد تجبر المحتكر في أحيان أخرى على الالتزام بمقاييس الجودة ومتطلباتها, كما هو الحال في السوق التنافسية البحتة عندما يتم الالتزام بحساب النتائج النهائية على أداء المنشأة وتأثير الالتزام بالمواصفات والمقاييس في الاستراتيجية والأهداف.
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن تأثير الالتزام بالمواصفات القياسية ونظم الجودة وتطبيقها لا يقتصر فقط على تحسين نوعية الاستهلاك,بل يرتبط أيضاً بعدد من المتغيرات الاقتصادية الكلية كالاستثمار الأجنبي وسوق العمل. المستثمر الأجنبي يأخذ في الحسبان المواصفات القياسية ونظم الجودة, التي تعد متطلباً نظامياً واجب التنفيذ والاتباع, خصوصاً حين يكون المستثمر الأجنبي متبعاً هذه الأنظمة في بلده الأم بطريقة أصبح معها الالتزام بالجودة جزءاً من نموذج العمل والعمليات والتعامل مع المستهلك النهائي والجهات الرقابية والتنظيمية. أما سوق العمل، فإن من شأن وجود مواصفات قياسية مطبقة تطبيقاً دقيقاً أن يؤدي إلى حصر المهارات الواجب تنميتها والمنتجات الممكن التدريب عليها بكفاءة وفاعلية عاليتين.
فمثلاً، لو أن جميع المحولات والتوصيلات الكهربائية في السوق السعودية تخضع لموصفات قياسية معينة بغض النظر عن الجهة المنتجة،فإن تشابه التصميم ومتطلبات الصيانة والإصلاح سيسهلان من عملية التدريب عليها في المعاهد المهنية ومؤسسات التدريب الفنية بصورة تقلل من التكاليف الكلية وبما يسهم من رفع نسب السعودة في الوظائف الفنية والمهنية. إضافة إلى ذلك، يؤدي تطبيق المواصفات القياسية بشكل دقيق إلى تحسين معدلات الأداء لجهات وعمليات أخرى كالحال في عمليات التفتيش والرقابة على السلامة التي يقوم بها الدفاع المدني أو التطابق مع المتطلبات البيئية التي تقوم بها البلديات.
وفي الختام، يجب أن يرتفع مستوى التنسيق بين الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس ومختلف الجهات الرقابية والوزارات مع البدء بالرفع التدريجي للمتطلبات النظامية للالتزام والتوافق مع المواصفات القياسية وأنظمة الجودة ذات المساس المباشر بالمواطن بتزامن مع رفع القدرة الرقابية وربط كل ذلك بالمتغيرات الاقتصادية والجهات ذات العلاقة كالمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني كي يسهم تطبيق المواصفات وأنظمة الجودة في رفع نسب السعودة وتحقيق الأهداف الاقتصادية التي من أهمها حماية المستهلك.