في استقراء سريع للقيم المنشورة في المواقع الإلكترونية لعدد من الهيئات والشركات تجد ثلاثة أنواع من المواقع، فهناك من لم يذكر القيم نهائيا حتى عند الإشارة إلى الخطط الاستراتيجية يتجاهل ذكر القيم تماما، وموقع يستخدم عبارات تتضمن مفهوم القيم، لكنها ليست قيما بالمعنى الحرفي، كأن يقال مرتكزات استراتيجية أو يقول معايير الجودة، فمن الصعب القول إن هذا النوع من المواقع قد عرض قيما أو أنه تجاهلها، ذلك أن مضمون هذه المرتكزات أو المعايير يتضمن القيم فيها، لكنها مع ذلك تتجاهل الإشارة إلى القيم بشكل منفصل، ويأتي النوع الثالث وهو الذي يشير صراحة إلى القيم، ومن خلال الاستقراء تأتي قيمة الشفافية من أكثر العبارات استخداما، ثم التعاون وقد يأتي بمعنى الفريق الواحد أحيانا، ثم الجودة، والابتكار، وهناك قيم مثل التمكين والالتزام والمشاركة، والعدل والشريعة الإسلامية.
هناك عدد من المواقع يصل إلى 10 في المائة تضيف تعريفا بماهية القيمة المقصودة في حدود سطر واحد، بينما لا يكتب الباقون حرفا واحدا إضافيا على الكلمة. قد يقول البعض عن هذا المقال، إنه من فضول القول، فمن يهتم بالقيم، فهي مجرد ديباجة شكلية للخطط، وهذا هو الخطير في الأمر، أن تتحول القيم المكتوبة إلى مجرد ديباجة شكلية بينما هناك قيم أخرى تعمل في الواقع، وقد تكون غير مرصودة بينما هي تقوض أركان العمل. وهنا يبزر سؤال مهم، هل تحتوي القيم على كل هذا التأثير الذي أزعم به؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال، أقول هل يمكننا تصور منتجات خالية من القيم؟ هل هذا طبيعي أم أمر في غاية الخطورة، خاصة في زمن تحولت فيه المفاهيم واضطربت بشكل مفجع، ولا أدل على ذلك من مفاهيم الشذوذ التي تغزو العالم، وقد تجد أحدهم يعرض قميصا "دون أن يهتم" يحتوي على عبارات من هذا النوع أو شعارات لها، فهل المنتجات خالية من القيم؟ أقول "وهذا رأيي" إنه لا توجد منتجات أو خدمات خالية من القيم، سواء كانت مرصودة مقصودة أو لم تكن. لهذا فمن الخطورة بمكان أن تكون القيم المكتوبة غير تلك الموجود في الواقع وتؤثر في المنتجات.
في حصة تدريبية لإحدى المؤسسات، وجدت في ممرات المؤسسات لوحات مكتوبة عن القيم، في المدخل وفي قاعات التدريب، لقد شعرت أن التمرين الرئيس الذي أعددته قد يفشل بسبب وجود هذه اللوحات، لكني مع ذلك مضيت قدما في التمرين، حيث طلبت من المتدربين وكانوا من القيادات المتوسطة في المؤسسة، النظر في ورقة بيضاء على طاولة التدريب وعدم النظر في اللوحات الجدارية نهائيا، ثم طلبت منهم كتابة قيم المؤسسة، ولم تكن مفاجأة بالنسبة إلي أنه لم يستطع أي متدرب منهم كتابة أي قيمة، على الرغم من أنها مكتوبة في كل مكان تقريبا، وهو يراها كل يوم. لكن التمرين لا يقف هنا، لقد طلبت من كل واحد منهم أن يحدد منتجات المؤسسة، وقد كانت مؤسسة خدمية، وبصعوبة وبعد عصف ذهني تمكن البعض منهم من تحديد منتجات واضحة، ثم طلبت أن يتم استخراج قيم المؤسسة من تلك المنتجات.
عندما تكتب المنشأة عن الشفافية كقيمة ثم لا تستطيع أن تجد هذه الشفافية في المنتجات والقيم، فإن القيمة لا معنى لها تماما، لا معنى أن تفشل جهة وموظفوها في كتابة وصف دقيق جدا للخدمات، وما مواصفاتها، وكيف تقدم الخدمات، وكيف يمكن الحصول عليها بشكل يحقق معنى الشفافية، ثم تجد الشفافية مكتوبة في كل ركن، كلمة جوفاء لا معنى لها. عندما تجد قيمة تسمى المشاركة، ثم لا تعرف أين حدثت هذه المشاركة في الخدمة أو المنتج، لا كيف شارك المستهلك في المنتجات، فإنه لا معنى لها أبدا، عندما تجد قيمة تسمى الشريعة الإسلامية، ثم لا تعرف كيف أجدها في المنتجات ولا كيف تم تعريفها للمستهلك، فإن هذه القيمة معطلة للاستهلاك الإعلامي فقط. لم أكن مندهشا عندما فشل المتدربون في اختبار كتابة القيم التي يرونها كل يوم معلقة على جدران المؤسسة، لأنهم لم يعملوا يوما على وضعها فعليا في المنتجات التي يقدمونها، لم يوضح لهم أين هذه القيم، وأين دورها في الإجراءات التي ينفذونها، لم تتم مساءلتهم يوما عن تساهلهم بشأنها. والآن عزيزي القارئ وإذا كنت في مكتبك وتقرأ هذا المقال، حاول الآن أن تكتب القيم التي في مؤسستك دونما العودة إلى صفحاتها في الإنترنت أو اللوحات الجدارية، ثم قم بالتمرين وحدد المنتجات والإجراءات ثم أخبر نفسك أين هذه القيم، قم بهذا التمرين مع الزملاء وحدد كم منكم استطاع ذلك.
إن هذه المسألة لا تقف هنا، وليس الهدف من التمرين هو تحدي الذات، بل هو لمعرفة ما هو أخطر من ذلك، فإذا كانت القيم المكتوبة غير فاعلة، وإذا كنت "شخصيا" أرى بأنه لا توجد منتجات ولا خدمات خالية من القيم، فإن السؤال الأشد خطورة الذي يفرض نفسه هنا، هو عن ماهية القيم الفعلية غير المرصودة، ما القيم الفاعلة، وهل يمكن رصدها، هل يمكن للمؤسسة أن تمنع تسرب قيم مثل التساهل، والتغرب، والإقصاء، والعنصرية، والتعصب، والصراع، من واقع المؤسسة ومنتجاتها، فضلا عن قيم أشد خطورة مثل العداء للوطن وقياداته، وقيمه الكبرى. سأترك الإجابة للقراء الكرام.
نقلا عن الاقتصادية