الجودة .. غموض المفهوم؟ «1»

23/07/2023 1
د. محمد آل عباس

ما الجودة؟ هذا المفهوم الذي يمس كل شيء في حياتنا، نحن نسأل بشكل مستمر عن جودة الأكل، والملابس، بل ونصنف الأشياء وفقا للجودة، ومع ذلك فإن تعريف الجودة نفسه، يظل محل تساؤل، وخاصة أننا لا نعرف الجودة إلا بعد الاستخدام، فكيف يمكننا تقييمها قبل ذلك. نحن نعتمد في كثير من الأحيان على رأي الآخرين الذي استخدموا السلعة أو الخدمة، ولهذا انتشرت فكرة المشاهير، فالمشاهير يقدمون للمجتمع خدمة تجربة المنتج وفحص الجودة، لذلك عندما نعرف أن ذلك المشهور أو غيره قد تم الدفع له مقابل التقييم، فإنه يفقد الثقة فورا، البعض من المشاهير يعتقد أنه قادر على المحافظة على الثقة كمقيم للجودة رغم معرفة المجتمع أنه يتقاضى أتعابا على التقييم، لكنه في الحقيقة يقوم باستهلاك رأسماله، وسرعان ما يفقد دوره المجتمعي في تقييم الجودة. فمتابعة المجتمع للمشاهير ليس عبثا، بل هي سلوك مجتمعي يقوم على فكرة الراكب المجاني، بحيث استخدم السلعة بعد أن ثبتت جودتها دون تكلفة مني أو مخاطرة، وهذا صحيح حتى في الخدمات، وكذلك في السياحة. لكن هذا السلوك المجتمعي يقوم على فكرة أن الجودة لا يتم تقييمها إلا من بعد الاستخدام لها.

لكن هناك تعريفات أخرى للجودة انطلقت منذ ثمانينيات القرن الماضي من أجل معرفة ماذا يعني هذا المصطلح، وقد انتشرت فكرة المطابقة للمواصفات، فالسلع التي تطابق المواصفات المعدة سلفا هي سلع ذات جودة، لكن هذا ليس صحيحا دائما ذلك أن هذا التعريف قد لقي انتقادات شديدة لفشله في مراعاة احتياجات العملاء بشكل كاف. فالمشكلة في الجودة أنها ليست مثل الوزن والطول واللون والعمر على الرغم من أنها صفة تلحق السلعة مثل هذه السمات، ونحن ندفع في مقابلها مثل ما ندفع في مقابل هذه السمات، لكن الجودة تختلف عن هذه السمات من ناحيتين، الأولى أنها غير قابلة للقياس بشكل مباشر، فليس للجودة خاصية فيزيائية ولهذا لا يمكن قياسها مباشرة بالوسائل المادية، ثانيا، الجودة هي سمة علائقية "تمثل علاقة شيء بشيء"، ففي حين أن الطول يشير إلى سمة أصيلة، فإن القرب مثلا يمثل سمة علائقية تشير إلى مدى قرب شيء من نقطة مرجعية. فالجودة تشير إلى العلاقة بين الشيء واستخداماته، فالشيء يكون ذا جودة، لكن عند استخدام معين، ولهذا ارتبك تعريف الجودة مع المواصفات، فالمواصفات هي خصائص فيزيائية توفر معيارا للاستخدام المناسب للسلعة أو الخدمة بحيث إن استخدامها في غير ذلك يعد خارج مفهوم الجودة أو استخدامها فوق أو أقل من تلك المواصفات يعد كذلك خارج مفهوم الجودة، لذلك نعود للمربع الأول، ما الجودة؟

البعض يرى أن الجودة هي امتياز يمنحه شخص "خبير" لسلعة/ خدمة معينة، ولذلك تأتي بعض الجهات لتعرف الجودة بأنها "التميز"، لكن هذا يتطلب تحديد من الذي له حق منح هذا "التميز"، ولماذا أخذ هذا الحق، هنا انتشرت مكاتب وشركات ووكالات وهيئات لمنح الامتيازات، مثل آيزو وغيرها، ومكاتب تابعة لها، الجميع يدعي وصلا بليلي، وهناك الآلاف اليوم ممن حصلوا على شهادة الامتياز تلك، والجميع يعرف أنها منحت بعد دفع الأتعاب، ومع ذلك فإن الشعور بالجودة لم يزل مفقودا، ذلك أنه ليس بالضرورة أن يوافق شعوري بالجودة شعور ذلك الذي منح الامتياز مهما كانت شروطه. منح الامتياز يشبه إلى حد بعيد فكرة المشاهير، فالمشهور يمنح التميز أيضا، لكن ليس بالضرورة أن ما شعر به المشهور من تميز هو ما أشعر به عندما أستخدم السلعة/ الخدمة نفسها، وكذلك الحال مع هيئات ووكالات منح الامتياز، لكن المشهور قام باستخدام السلعة/ الخدمة فعلا ثم منح الامتياز، بينما الهيئة لم تقم باستخدام السلعة/ الخدمة، وإنما قيمت، وفقا لشروط وضعتها سابقا، فمن أين جاءت هذه الشروط المسبقة؟ المشكلة أن هذه الشروط تمثل مقاييس فيزيائية "صفات مثل الوزن والطول والوجود" فإذا اجتمعت هذه المقاييس الكمية، فإن الجهة مانحة الامتياز تؤكد أن السلعة/ الخدمة ذات جودة. لكن هذا يقودنا للمفهوم التقليدي للجودة وهو المطابقة للمواصفات، وهو مفهوم يواجه انتقادات حادة، فالمطابقة للمواصفات ليست نقطة مرجعية، بل مدى معين، مثلا يجب أن يكون طول السلعة "كذا" متر، فإذا جاءت أقل بسنتميتر أو اثنين، لذلك تأتي المواصفات وتضع مدى بين طول كذا وكذا، وهكذا.

ولذلك، فإن المواصفات ليس بالضرورة دقيقة في تعريف وتحديد ما هو جيد وما هو غير ذلك، بل المستخدم هو من يقرر ذلك، لكن المشكلة أن احتياجات المستخدمين متفاوتة بشكل صارخ أحيانا، وفي أحيان كثيرة، فإن متابعة رغبات المستخدم تعني ارتفاع التكلفة حتى حد لا يستطيع المستخدم نفسه تحملها، وهو ما قد نسميه في القطاع الصحي "بالعناية الزائدة عن الحاجة Over-care"، فمثلا نحن ندفع لكثير من المستشفيات الخاصة مبالغ في مقابل عناية "لسنا بحاجة إليها فعلا"، بل هي ترف، ولهذا بدأت شركات التأمين تعاني مثل هذه المستويات، التي وضعت الجودة عند مقابلة رغبات مجموعة محدودة من العملاء تم تعميمها على أنها لمستوى من الجودة المطلوب، قد يقول قائل إن الشركات ترسل رسائل تقييم الجودة، ونعم يتم إرسال رسالة تقييم الجودة، ومع ذلك، فإننا نؤكد الحصول عليها، لكن هل فعلا ما كنا بحاجة له أم هي أكثر، وطبعا لا يمكن لأحد رفض مزيد من العناية، ولكن لا نريد دفع مزيد في مقابلها، لذلك تستغرب بعض الجهات، كيف أن تقييم الجودة يأتي مرتفعا وتقييم السعر منخفضا، ببساطة نحن ندفع في مقابل جودة لفئة من الناس لسنا من بينهم على كل حال، يتبع.

 

 

نقلا عن الاقتصادية