هذا الشعب المسكين

11/05/2010 11
د.محمد إبراهيم السقا

أفغانستان بلد سيء الحظ، شاء الله أن تتلاعب به القوى يمنة ويسارا، بعد أن أصبح موضع اهتمام العالم منذ أن غزاه الاتحاد السوفيتي سابقا ظلما وعدوانا، ليتحول بعد ذلك مركزا لكل شيء وأي شيء، ويدفع شعب أفغانستان المسكين الثمن، سواء أكان ذلك برضاه أو مرغما على ذلك. ففي مغامرة غير محسوبة أقدم الاتحاد السوفيتي السابق على غزو هذا البلد انتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي وخروجه من أفغانستان بجروح استمرت لسنوات كي يتعافى منها، وفي مغامرة غير محسوبة العواقب أيضا أقدم الرئيس الأمريكي بوش الصغير على احتلال أفغانستان، ردا على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بعد أن ظن أنها مجرد نزهة عسكرية تستغرق عدة أيام تسقط فيها حكومة طالبان ويستقر الوضع وتعين حكومة جديدة برعاية أمريكية ثم ينسحب الجنود بعد التأكد من وجود عسكري أمريكي صغير الحجم في المنطقة، وهو للأسف ذات السيناريو الذي خطط له فيما بعد في العراق، حيث قرر الرئيس الأمريكي استغلال الزخم الذي تم تحقيقه في أفغانستان ليبدأ حربه على العراق، ومن ثم احتلال دولتين في عامين متتاليين، دون النظر للاعتبارات المالية المترتبة على هذا القرار، وفي سوء تقدير واضح لإدارة المحافظين الجدد في ذلك الوقت، للأعباء المالية الهائلة التي يمكن أن تترتب على اندلاع حرب من هذا النوع. وقد كانت تقديرات تكاليف الحرب في ذلك الوقت محدودة، بحيث قدمت الحرب للجمهور الأمريكي على أنها مجرد عملية جراحية محسوبة الوقت والتكاليف والنتائج.

وبغض النظر عن المبررات التي قدمت لبدء الحرب، بصفة خاصة الحرب على العراق، ومدى مصداقية تلك التبريرات، فإن الواقع اثبت أن دخول الحرب كان كارثة على الاقتصاد الأمريكي، حيث أصبح الوضع في أفغانستان والعراق بمثابة مستنقع يصعب على الإدارة الأمريكية حاليا الخروج منه، مثلما كان عليه الحال في التجربة الأمريكية في فيتنام. وبغض النظر عن التكاليف البشرية للحرب، فان المخصصات المباشرة لتمويل حرب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق آخذة في التزايد بشكل مخيف، وعلى الرغم من الادعاء بتحقيق النصر في الحربين، فان جميع المؤشرات تشير إلى أن الأوضاع قبل الحرب في البلدين ربما كانت أفضل مما هو الحال عليه اليوم، أنا أتحدث من الأبعاد المرتبطة بالجانب الأمني والاستقرار السياسي. � اليوم أقدم بعدا آخر للوضع في أفغانستان بعد الحرب، وهو الاعتماد الرهيب لهذا البلد المسكين على المعونات الأجنبية والذي يوضحه الشكل التالي. اليوم يحرص الرئيس الأمريكي أوباما على زيادة التواجد العسكري والمدني الأمريكي في أفغانستان، بهدف تدعيم استقرار أفغانستان والحد من التهديدات الإرهابية التي يمكن ان تتعرض لها أمريكا من المنظمات المتطرفة في هذا البلد. غير أن جلب الاستقرار لنظام أقيم على أساس غزو عسكري قد يبدو مسألة بعيدة المنال، هذا فضلا عن تكلفتها المالية الهائلة. التدخل الأجنبي في أفغانستان بدءا من المغامرة السوفيتية الخاسرة حتى الاحتلال الأمريكي السافر لم يؤد إلا إلى ازدياد الاعتماد الأفغاني على الخارج، بالرغم من التقارير التي تشير إلى حدوث نمو في أفغانستان، قدر بحوالي 20% سنويا منذ عام 2002. لدي ملاحظتين على هذا النمو، هما أنه مبهر، ولكنه مضلل. مبهر لأنه لا توجد دولة في العالم تحقق هذا المعدل من النمو سنويا، ومضلل لأنه يستند إلى لا أساس تقريبا يبنى عليه معدل النمو، فعندما يكون الناتج المحلي الإجمالي صغيرا جدا فإن أي إضافة إلى هذا الناتج مهما كان حجمها سوف تظهر على صورة معدل نمو واضح.

أما النقطة الأهم فهي أن هذا النمو ارتكز أساسا على المعونات الأجنبية، ومن ثم لم يكن نموا ذاتيا، وهنا مكمن الخطورة. بمعنى آخر لو تصورنا توقف تدفق المعونات الأجنبية من الحلفاء إلى هذا البلد، فإن الاقتصاد سيعود مرة أخرى إلى مربع رقم 1 وبسرعة أكبر مما نتصور. الشكل التالي يوضح تطور درجة اعتماد الاقتصاد الأفغاني على تدفقات المعونة الأجنبية خلال الفترة من 2002 إلى 2008 ومن الشكل يتضح أن درجة اعتماد الاقتصاد الأفغاني على المعونة (نسبة المعونات إلى الناتج المحلي الإجمالي) قد ارتفعت من 32% عام 2002 إلى 42%عام 2008، وهو بهذا الشكل يعد اكبر اقتصاد في العالم يعتمد على الإعانات الخارجية، ذلك أن ما يتدفق من معونات خارجية إلى هذا البلد، ومن المؤكد أن تدفقات السلاح تدخل ضمنها، يساوي تقريبا حجم إجمالي الناتج الذي يتم توليده محليا. ماذا تعني هذه الأرقام؟ إنها ببساطة تعني أن قوى التحالف في أفغانستان بقيادة الولايات المتحدة فشلت في تحقيق كافة مستهدفاتها في أفغانستان سواء العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية.

في رأيي لو أن مئات المليارات التي أنفقت في تدمير قواعد هذا البلد وتقطيع أوصاله استغلت في إرساء بنى تحتية لاقتصاد عصري لكنا جنبنا العالم الويلات التي حاقت به كثمن لهذا الدمار، ولكنا رأينا أفغانستان اليوم بلد في طليعة الاقتصاديات الناشئة في العالم، تصدر للعالم الكثير من السلع المدنية بدلا من أن تصدر إليه الإرهاب والهيروين. والآن دعني أطرح هذا السؤال، ماذا كنا نتوقع من أناس يعيشون في بلد مقطع الأوصال لا يجد سكانه فرصة الحصول على عمل يمكن أن يسدون به احتياجاتهم سوى حمل البندقية والانضمام إلى جانب الحكومة أو جانب المعارضة أو لحماية مزارع الأفيون. البندقية هي إذن بالنسبة للكثيرين هي المعول أو أداة تحصيل الرزق الأساسي للناس، وذلك بدلا من الآلة في المصنع أو المحراث في المزرعة. � أتصور أن عملية تغيير ثقافة العنف التي تربي عليها الأجيال في أفغانستان منذ الغزو السوفيتي وانتهاء بالاحتلال الأمريكي سوف يتطلب وقتا طويلا جدا قبل أن يتحول هذا البلد المسكين مرة أخرى للانضمام إلى معسكر العالم المتحضر. لا شك ان الثمن الذي اجبر الشعب الأفغاني على دفعه، رغما عنه، هو ثمن فادح، ولا شك أنها تجربة قاسية أن يجد شعب نفسه، بدون حول منه ولا قوة، يتحول إلى نظم تطبق فلسفات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وهو حائر بين كيفية التكيف لاستيعاب استحقاقات هذه التقلبات الحادة. ليس غريبا إذن أن يفقد الشعب الأفغاني هويته وسط هذا المعترك الرهيب، ومما لا شك فيه انه لو تعرض أي شعب في العالم لما تعرض له الشعب الأفغاني فان لن يكون اقل تطرفا منه. أدعو الله ان يخلص الشعب الأفغاني من كافة النكبات التي فرضت عليه وأن يعود مرة إلى العالم لكي يصدر له رجالا يحملون شعلة التنوير مثلما فعل جمال الدين الأفغاني في مصر، وليس الرجالات التي يصدرها للعالم اليوم.