قبل أن تتحول الكهرباء إلى شريان حياة لا يمكن تخيّل المملكة من دونه، وقبل أن تضيء المدن ليلها بثقة الدولة الصاعدة، كانت العتمة جزءًا طبيعيًا من المشهد اليومي، وكان الضوء يُستعار من الشمس نهارًا ومن الزيت ليلًا، في تلك اللحظة التاريخية، لم تكن الكهرباء مشروع دولة ولا عنوان نهضة، بل شرارة صغيرة في زمن كبير، ومن ذلك الضوء الخجول، بدأت حكاية وطن قرر أن يصنع نهاره وليله بيده، مع بدايات توحيد البلاد على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-، بدأت المدن الرئيسة تعرف الكهرباء بشكل متقطع، حيث شُغّلت محطات صغيرة في الرياض وجدة ومكة المكرمة خلال الثلاثينيات، تعتمد على مولدات محدودة وتعمل لساعات معينة في اليوم، كانت الكهرباء خدمة نخبوية في ذلك الوقت، لا تصل إلا إلى نطاق ضيق، وتدار غالبًا بجهود بلدية أو استثمارات فردية، لكنها مع ذلك أحدثت أثرًا اجتماعيًا واضحًا، إذ ارتبط النور الكهربائي بالحداثة والنظام وبدايات التحول العمراني.
ومع اكتشاف النفط وتدفق عائداته ابتداءً من الأربعينيات، تغير المشهد سريعًا، أصبحت الكهرباء عنصرًا أساسيًا في بناء الدولة الحديثة، ورافعة لا غنى عنها للتعليم والصحة والصناعة، وتوسعت الشبكات في المدن الكبرى، وبدأت القرى تدخل تدريجيًا في دائرة الخدمة، خاصة خلال الخمسينيات والستينيات، حين اتسعت رقعة التنمية وارتبطت الكهرباء بالماء والطرق والمرافق العامة. لم يعد النور ترفًا، بل ضرورة يومية، وأحد رموز العدالة التنموية التي سعت الدولة إلى ترسيخها.
شهدت السبعينيات نقطة انعطاف كبرى مع الطفرة الاقتصادية، حيث تسارعت وتيرة كهربة المناطق كافة، وظهرت شركات كهرباء إقليمية لتلبية الطلب المتزايد. كانت تلك المرحلة تتسم بالسباق مع الزمن، فالنمو السكاني المتسارع، والتوسع العمراني، وقيام المدن الصناعية، فرضت ضغوطًا هائلة على منظومة الكهرباء، إلا أن الدولة نجحت في تحويل هذا التحدي إلى فرصة، فبُنيت محطات توليد ضخمة، ومدّت شبكات نقل عالية الجهد، وأصبحت الكهرباء أحد أعمدة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
وفي عام 2000، دخل قطاع الكهرباء مرحلة أكثر نضجًا مع تأسيس الشركة السعودية للكهرباء، عبر دمج عدد كبير من الشركات الإقليمية في كيان واحد. لم يكن ذلك مجرد إجراء إداري، بل تحول مؤسسي أعاد رسم العلاقة بين الإنتاج والنقل والتوزيع، ورفع كفاءة التشغيل، وحسّن جودة الخدمة، وهيأ القطاع لمرحلة الطلب المرتفع والتوسع طويل الأمد. ومع مرور السنوات، أصبحت الشبكة الكهربائية السعودية مترابطة على مستوى وطني، وقادرة على تغذية مدن تمتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
ومع إطلاق رؤية السعودية 2030، لم تعد قصة الكهرباء محصورة في زيادة الإنتاج وتلبية الطلب، بل تحولت إلى قصة تحول نوعي في فلسفة الطاقة نفسها. حيث دخلت الاستدامة إلى قلب المعادلة، وبدأت المملكة تنظر إلى الكهرباء بوصفها أداة لتنويع الاقتصاد، وخفض الانبعاثات، وتعظيم القيمة من الموارد الطبيعية. وظهرت مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في مناطق مختلفة، وبدأ الحديث عن العدادات الذكية، وكفاءة الاستهلاك، والشبكات الحديثة التي تتفاعل مع المستخدم لا تخدمه فقط.
في هذا السياق، تجاوز طموح السعودية حدود الاكتفاء الذاتي، ليتجه نحو تصدير الكهرباء إلى دول عدة، مستندة إلى موقعها الجغرافي الإستراتيجي، وقدراتها التوليدية المتنامية، واستثماراتها في الطاقة المتجددة، في تحول يعكس انتقال الكهرباء من خدمة محلية إلى منتج اقتصادي وجيوسياسي مؤثر.
واليوم، وبينما تغذي الكهرباء مشاريع عملاقة مثل نيوم والبحر الأحمر والمدن الصناعية الجديدة، تتجسد مسيرة طويلة بدأت بمولد متواضع في المدينة المنورة، وانتهت إلى منظومة طاقة تطمح لأن تكون من الأكثر تقدمًا واستدامة عالميًا، مسيرة تنموية وإنسانية تؤكد كيف يتحول النور من إنارة ليلٍ عابر إلى طاقة تصنع مستقبل وطن.
نقلا عن جريدة الرياض


