أرامكو السعودية بين الإرث والابتكار.. قوة تعيد صياغة المستقبل

09/11/2025 0
حسين بن حمد الرقيب

في عالم يموج بالاضطرابات الجيوسياسية وتقلبات أسواق الطاقة، تواصل أرامكو السعودية تأكيد مكانتها كجبلٍ ثابت يشق طريقه وسط العواصف، ويمنح الاقتصاد العالمي قدرًا من الاتزان لا يتوفر إلا لدى الكيانات الكبرى. فهي ليست مجرد شركة نفط، بل قوة اقتصادية تؤثر في أسواق العالم وتعيد ضبط إيقاع العرض والطلب كلما اختلّت موازينهما. وكلما زاد ضباب المشهد الدولي، ازدادت وضوحًا حقيقة الدور الذي تؤديه أرامكو، ودورها المركزي في تأمين الطاقة ودعم النمو داخل المملكة وخارجها.

وفي الربع الثالث من عام 2025، كتبت الشركة فصلًا جديدًا من قوة الأداء ومرونة التشغيل؛ إذ بلغ صافي الدخل المعدل 104.9 مليار ريال، فيما ارتفعت التدفقات النقدية الحرة إلى 88.4 مليار ريال وهو دليل على قدرة الشركة على توليد السيولة حتى في الفترات التي تتراجع فيها الأسعار. وفي غضون تسعة أشهر فقط، تجاوز صافي دخل الشركة 283 مليار ريال، مع توزيعات للمساهمين فاقت 240 مليار ريال، مما رسّخ مصداقيتها واستدامتها في أعين الأسواق الدولية. وفي عمق هذه النتائج، يبرز الغاز بوصفه عنوان التحول الجديد. فقد رفعت الشركة مستهدف نمو غاز البيع إلى 80 % بحلول 2030 مقارنة بمستويات 2021، لتفتح الباب أمام إنتاج يتجاوز ستة ملايين برميل مكافئ يوميًا من الغاز والسوائل المصاحبة. الجافورة، باعتباره مشروعًا غير تقليدي، يتقدم ليصبح أحد أعمدة مستقبل الطاقة السعودي، فيما تدعم مشروعات رأس تناقيب والفاضلي هذا التحول المتسارع. وفي الوقت نفسه، تعيد أرامكو تشكيل هويتها الاقتصادية عبر تعزيز ذراع المصب من تكرير وكيميائيات وتسويق. ففي الصين، تشيّد أحد أكبر المجمعات المتكاملة بطاقة 320 ألف برميل يوميًا ومصانع متقدمة للإيثيلين والبارازيلين، وفي الفلبين توسّع حضورها من خلال يوني أويل، وفي المملكة تعزز سيطرتها على بترورابغ برفع ملكيتها إلى 60 %. هذه المشاريع ليست مجرد توسعات، بل بناء لسلاسل قيمة كاملة تصل حتى المستهلك النهائي.

ولأن الكفاءة لا تأتي فقط من الاستثمار والتوسع، بل من قدرة الشركة على العمل بدقة متناهية، يبرز مركز تخطيط وتنظيم توريد الزيت OSPAS في الظهران باعتباره العقل التشغيلي لأرامكو. فالمركز، الذي يُعد متفردًا عالميًا، يعتمد على أكثر من 100,000 مستشعر لمراقبة كل ما يجري داخل الشركة لحظيًا وعن بُعد من الآبار إلى مرافق المعالجة والمصافي ومحطات التوزيع وموانئ الشحن العملاقة. ويتابع المختصون فيه عمليات أكثر من 100 منشأة تشمل معامل إنتاج الزيت والغاز ومحطات الكهرباء، ما يجعل OSPAS أحد أهم أسباب كفاءة التشغيل وانخفاض التكاليف.

ولا تبدو أساسيات السوق بأقل قوة من قدرات الشركة؛ فالعرض والطلب على النفط والغاز يمران بمرحلة ممتازة، مع توقعات بنمو إضافي قادم من الدول النامية وآسيا والولايات المتحدة. ولهذه التوجهات، تتحرك أرامكو ضمن نطاق استثماري يتراوح بين 52 و58 مليار دولار لعام 2025، إلى جانب ما يقارب 100 مليار دولار من مشاريع البناء الكبرى. ورغم انتشار السيارات الكهربائية، ما زال الطلب على منتجات النفط مرتفعًا في قطاعات النقل التقليدي والطيران، بينما يواصل قطاع تحويل النفط إلى كيميائيات نموه بما يتراوح بين 500 و700 ألف برميل مكافئ يوميًا. وفي موازاة ذلك، تعمل الشركة على مشاريع استخلاص المعادن، ومنها بدء إنتاج الليثيوم في 2027، ما يفتح بابًا جديدًا لصناعات الطاقة الحديثة. أما في عالم التقنية، فتمتلك أرامكو برنامجًا ضخمًا للذكاء الاصطناعي يعتمد على 90 عامًا من البيانات الدقيقة، وعلى قوة بشرية تضم 200–300 عالم بيانات وأكثر من 6000 مختص تقني. وقد حققت قيمة مالية من التكنولوجيا بلغت 2 مليار دولار في 2023 و4 مليارات في 2024، مع توقعات بتحقيق 2–4 مليارات سنويًا ابتداءً من 2025. ومن أهم ابتكارات الشركة نموذجها اللغوي الكبير “ميتابرين” الذي يضم 70 مليار نقطة بيانات ويجري تطويره ليصل إلى تريليون نقطة بيانات مستمدة من عقود الاستكشاف، ويُستخدم لزيادة الكفاءة وتقليل التكاليف والبصمة الكربونية. كما تعتمد أرامكو على نماذج محاكاة مكامن بتريليون خلية لإدارة حقول النفط بدقة غير مسبوقة.

وتعزز الشركة هذه القدرات من خلال شبكة شراكات واسعة مع عمالقة التقنية وأشباه الموصلات مثل كوالكوم وإنفيديا وجوجل وGroq وAMD. وبفضل هذا التكامل بين الخبرة والتقنية والكوادر المؤهلة، حافظت الشركة على تكلفة ثلاثة دولارات للبرميل المكافئ طوال عشرين عامًا، رغم التضخم العالمي وهو إنجاز لا يتحقق إلا لدى مؤسسة تجمع بين إرثٍ عميق ورؤية مستقبلية تتجدد باستمرار. وفي النهاية، تواصل أرامكو تقديم نموذج فريد يمزج بين الاستقرار والابتكار، بين النفط والغاز والكيميائيات والذكاء الاصطناعي. إنها ليست شركة فحسب، بل ركيزة من ركائز الاقتصاد العالمي وقصة نجاح مستمرة تُعيد رسم ملامح مستقبل الطاقة وتدفع السعودية إلى مقدمة المشهد الدولي بقيمة وكفاءة ورؤية لا تخطئها العين.

 

نقلا عن الرياض