في عالمٍ يتغيّر بوتيرة غير مسبوقة، لم يعد المال وحده اللغة المشتركة بين الاقتصادات. الأرقام لم تعد تكفي لقياس القوة، ولا العوائد وحدها تعبّر عن النجاح. نحن نعيش لحظة تحوّل عميقة ينتقل فيها الاقتصاد العالمي من “Capitalism of Profit” إلى ما يمكن أن نطلق عليه “Economy of Meaning” — اقتصاد المعنى، حيث لا يُقاس الاستثمار بما يحققه من ربح فحسب، بل بما يخلّفه من أثر، وما يمنحه من قيمة، وما يضيفه من معنى لحياة الإنسان والمجتمع والعالم.
وفي قلب هذا التحول، تبرز المملكة العربية السعودية كصوت مختلف، بل كقائد لهذا التحول الجديد. لم تعد المملكة تتحدث فقط بلغة النفط أو المال أو الصفقات الكبرى، بل بلغة الرؤية، والغاية، والإنسان. إنها تمارس نوعًا جديدًا من القيادة العالمية يمكن تسميته “Leadership by Meaning” — قيادة تُعيد للمال روحه، وللاقتصاد رسالته.
فمنذ عقود، كان الاقتصاد العالمي يتحرك وفق منطق واحد: النمو أولًا، والربح دائمًا، والبقاء للأقوى. لكن هذا المنطق بدأ يتصدع مع الأزمات المالية والتغير المناخي وتآكل الثقة بين الشعوب والأسواق، كلها كشفت أن العالم بحاجة إلى منظور جديد للاستثمار، منظورٍ يوازن بين الثروة والغاية، بين العائد والأثر. وهنا يأتي مفهوم “Economy of Meaning” الذي لا يزال في طور التشكّل فكريًا، لكنه في جوهره يقول إن القيمة الحقيقية ليست في رأس المال، بل في “رأس المعنى”، أي أن المؤسسة أو الدولة أو المستثمر الذي يمنح قراراته الاقتصادية معنىً إنسانيًا واضحًا، سيقود المستقبل. فالاستثمار لم يعد يُقاس فقط بمدى ما يحققه من ربح، بل بما يحلّه من مشكلة، أو يصنعه من أمل، أو يقدّمه من إضافة للبشرية. وهنا تكمن المفارقة: المال لم يعد الغاية، بل أصبح أداة لتحقيق غاية أكبر. ومن بين جميع المنصات الاقتصادية في العالم، تبقى مبادرة مستقبل الاستثمار (FII) التي تحتضنها الرياض كل عام حدثًا مختلفًا في الجوهر قبل الشكل.
فبينما تُقام مؤتمرات اقتصادية حول العالم تركّز على التوقعات والأسواق، تُقيم المملكة مؤتمراً يبحث في المعنى، في “Why” قبل “How”. مبادرة مستقبل الاستثمار ليست مجرد ملتقى استثماري، بل منصة فكرية عالمية تجمع بين قادة الاقتصاد والعلم والفن والفكر والتقنية والحوكمة، هي مختبر للأفكار التي تعيد تعريف معنى النجاح في القرن الحادي والعشرين. ولهذا يصفها كثيرون بأنها “Davos of the Desert”، لكن الحقيقة أن مبادرة مستقبل الاستثمار تجاوزت هذا الوصف؛ لأنها لا تكرر خطاب الماضي بل تصوغ خطاب المستقبل.
في النسخ الأخيرة من المبادرة، لم يكن الحوار عن الصفقات فقط، بل عن الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة والاقتصاد الإنساني والتعليم وتمكين المرأة والحوكمة الأخلاقية وحتى فلسفة العمل في عصر التحولات. هذا التنوع ليس ترفًا، بل انعكاس لفكرة جوهرية: أن الاستثمار الحقيقي اليوم هو في الإنسان، وفي المعنى الذي يصنعه الإنسان. العالم اعتاد أن يقيس النفوذ الاقتصادي بمعيار الهيمنة المالية، لكن السعودية اليوم تُقدّم نموذجًا آخر: “Leadership by Meaning, not Dominance by Wealth.” القيادة بالمعنى تعني أن تبني الثقة لا السيطرة، وأن تصنع التأثير لا التبعية، وأن توجه رأس المال ليخدم الإنسان لا أن يُخضعه. وهذا ما تمارسه المملكة في كل خطوة من خطواتها الاقتصادية والاستثمارية. فمن الاستثمار في الطاقة النظيفة والهيدروجين الأخضر إلى مبادرات الاقتصاد الدائري للكربون، ومن الاستثمار في التقنية والذكاء الاصطناعي إلى رعاية الفنون والثقافة والمعرفة، كل ذلك يعكس فلسفة استثمارية جديدة: الاستثمار كوسيلة لصناعة المستقبل، لا كسباقٍ نحو الأرقام. وهنا يتجلى المعنى الحقيقي للرؤية السعودية الجديدة، أن تكون المملكة قوة ناعمة ذات عمق فكري واقتصادي في آنٍ واحد، دولة تجمع بين الحداثة والهوية، بين الطموح العالمي والجذر المحلي.
وحين أُعلنت رؤية المملكة 2030، لم تكن مجرد خطة اقتصادية، بل وثيقة فلسفية للغد، فهي لا تتحدث عن الناتج المحلي أو نسب التوظيف فحسب، بل عن جودة الحياة وتمكين الإنسان وبناء وطن طموح ومجتمع حيوي واقتصاد مزدهر. إنها رؤية تربط التنمية بالمعنى، بالكرامة، بالتمكين، بالاستدامة، وبالهوية.
ومن هنا، فإن FII ليست مبادرة مستقلة عن الرؤية، بل هي ترجمة عملية لمفهوم الرؤية نفسه في مجال الاقتصادي الدولي. حين يجلس المستثمر العالمي في الرياض خلال أيام المبادرة، لا يجد نفسه أمام سوق يبحث عن رأسمال، بل أمام فكر يبحث عن شركاء في صناعة المستقبل. هذا التحول هو ما يجعل السعودية اليوم في موقع “المصدر” للفكر الاقتصادي الجديد، لا “المتلقّي”. وواحدة من المعضلات التي واجهت الاقتصاد العالمي خلال العقود الماضية هي فقدان البوصلة الأخلاقية، فقد ارتبطت الرأسمالية أحيانًا بالجشع، والأسواق بالمضاربة، والربح بالاستغلال، لكن “اقتصاد المعنى” يعيد الاعتبار للحوكمة بوصفها أداة لتنظيم القيمة الإنسانية داخل رأس المال. وهنا تظهر السعودية كدولة تقود تحولات الحوكمة الجديدة، Governance for Growth & Purpose، أي حوكمة من أجل النمو والمعنى معًا. فالشفافية لم تعد مجرد التزام قانوني، بل أصبحت استراتيجية للثقة، والمساءلة لم تعد تهديدًا، بل وسيلة لبناء مصداقية طويلة الأمد.
وفي هذا الإطار، يمكن القول إن السعودية تنقل الحوكمة من مرحلة “الامتثال” إلى مرحلة “التمكين”، وهو التحول الذي تحتاجه كل الاقتصادات الكبرى لتستعيد ثقة الشعوب والمستثمرين. وفي فلسفة “اقتصاد المعنى”، تُصبح القيمة أسبق من الثروة، فالقيمة الفكرية والمعنوية والبيئية والاجتماعية هي التي تمنح الثروة معناها، وهذا بالضبط ما تعبّر عنه المشاريع العملاقة في المملكة — من نيوم التي تمثل مختبرًا للمدن المستقبلية المستدامة، إلى ذا لاين التي تعيد تصور الحياة الحضرية، إلى مشروعات الثقافة والسياحة التي تبني الإنسان قبل البنيان. كل مشروع من هذه المشاريع يجيب عن سؤالٍ بسيط لكنه جوهري: ما المعنى الذي نضيفه للعالم؟ وحين تصبح الإجابة على هذا السؤال هي منطلق الاستثمار، فإن الاقتصاد ينتقل من مرحلة النمو الكمي إلى مرحلة النضج النوعي.
لقد تحوّلت الرياض اليوم إلى عاصمة للفكر الاقتصادي الجديد، ففي كل عام يجتمع في مبادرة مستقبل الاستثمار آلاف القادة والمفكرين وصنّاع القرار، لا ليتنافسوا على الصفقات، بل ليتحاوروا حول فلسفة الاستثمار، عن مستقبل الإنسان، لا عن ماضي المال. وهذا بحد ذاته إنجاز استراتيجي، فالمملكة لم تكتفِ بأن تكون مركزًا للطاقة، بل أصبحت مركزًا لطاقة الأفكار، وأصبح صوتها في الاقتصاد العالمي ليس صدىً لغيرها، بل نغمة مستقلة تعبّر عن مرحلة جديدة من النضج والسيادة الفكرية. وفي نهاية المطاف، يمكن القول إن السعودية لا تسعى فقط لبناء اقتصاد قوي، بل لبناء اقتصاد ذي معنى، اقتصاد يُمكّن الإنسان، ويحترم البيئة، ويستثمر في القيم كما يستثمر في التقنية، ويوازن بين النمو والاستدامة، بين الربح والمسؤولية، بين الطموح والعطاء.
هذا هو الدرس الذي تقدمه مبادرة مستقبل الاستثمار للعالم: أن الاستثمار الذي لا يحمل معنى، يفقد روحه مهما كان حجمه، وأن الدولة التي تربط ثروتها برؤيتها، لا يمكن أن تفقد موقعها في المستقبل. فالسعودية اليوم لا تُعيد تعريف الاستثمار فقط، بل تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والاقتصاد، من “اقتصاد المال” إلى “اقتصاد المعنى”، وفي زمنٍ يزداد فيه الضجيج الاقتصادي ويختلط فيه الطموح بالأنانية والربح بالمضاربة، تأتي المملكة العربية السعودية لتقدّم للعالم صيغة جديدة للقيادة الاقتصادية، صيغة لا تقوم على “كم نملك؟”، بل على “لماذا نملك؟”، ولا على “كم نربح؟”، بل على “ماذا نضيف؟”، وهكذا تُكتب من الرياض فصول جديدة في فلسفة الاستثمار العالمي، فصول عنوانها الأسمى: “Leadership by Meaning” — القيادة بالمعنى، لا بالهيمنة.
خاص_الفابيتا


