ديلاوير: مختبر القوانين الذكية ونموذج يمكن أن يلهم بيئة الأعمال السعودية

11/10/2025 0
د. خالد بن سعد الحبشان

على الرغم من صغر مساحة ولاية ديلاوير (Delaware) الأميركية وعدد سكانها، إلا أنها تحولت إلى مختبر عالمي للقوانين الذكية جعلها موطناً لأكثر من 60% من الشركات المدرجة في أسواق المال الأميركية مثل NASDAQ وNYSE، بما في ذلك كبرى الشركات مثل Google وAmazon وTesla. النجاح هنا لم يأتِ بالصدفة، بل نتيجة إطار قانوني متطور يعرف باسم Delaware General Corporation Law (DGCL)، الذي يمنح الشركات مرونة كبيرة في تصميم هياكلها الداخلية (corporate governance structures) بما يتناسب مع استراتيجياتها، بينما يضمن حماية حقوق المساهمين (shareholders’ rights) ويعزز الشفافية والالتزام. 

إضافة لذلك، تمتلك ديلاوير محكمة متخصصة استثنائية تُعرف باسم Court of Chancery، وهي المحكمة التي تحكم في نزاعات الشركات بسرعة وكفاءة عالية، دون الحاجة إلى هيئة محلفين، معتمدين على خبرة قضاة متخصصين. هذا يوفر للمستثمرين legal certainty وبيئة مستقرة يمكنهم الثقة فيها. ومن الناحية المالية، تقدم ديلاوير مزايا ضريبية كبيرة، إذ لا تفرض ضرائب على الأرباح المتحققة خارج الولاية، مع رسوم تسجيل منخفضة نسبياً، مما يجعل إنشاء الشركات أكثر cost-effective. كما توفر الولاية خدمات مساندة للشركات مثل الاستشارات القانونية ومتطلبات الامتثال (compliance services)، وبعضها مجاني أو منخفض التكلفة، ما يساعد الشركات الناشئة (start-ups) على النمو دون أعباء مالية كبيرة. 

هذا النموذج الناجح جعل العديد من الدول تحاول محاكاته أو الاستفادة من أبرز عناصره. على سبيل المثال، طورت سنغافورة قوانين مرنة للشركات مع حوافز ضريبية، ما جعلها مركزاً مالياً في آسيا، بينما أنشأت الإمارات مناطق حرة مثل DIFC في دبي وADGM في أبوظبي بنظام قضائي وتشريعات مستقلة مشابهة، واتبعت لوكسمبورغ نهجاً مشابهاً لجذب صناديق الاستثمار الأوروبية. 

وفي السعودية، نرى تحولاً كبيراً في بيئة الأعمال ضمن رؤية السعودية 2030، مع تحديث نظام الشركات ليكون أكثر مرونة، وتعزيز دور هيئة السوق المالية (CMA) لحماية المستثمرين، وإنشاء المركز السعودي للتحكيم التجاري، وإطلاق مشاريع مثل مركز الملك عبدالله المالي (KAFD) والمناطق الاقتصادية الخاصة. هذه الإصلاحات أوجدت بيئة استثمارية أكثر جذباً، لكنها يمكن أن تصبح أكثر فعالية إذا استفادت من بعض عناصر نموذج ديلاوير. 

من أهم الخطوات الممكنة: أولاً، إنشاء محاكم تجارية متخصصة شبيهة بـ Court of Chancery، لفض النزاعات الاستثمارية بسرعة ودقة عالية، ما يعزز ثقة المستثمرين. ثانياً، منح الشركات مرونة أكبر في صياغة أنظمتها الداخلية (bylaws) وتحديد الهياكل الإدارية بما يتناسب مع احتياجاتها، مع تعزيز قواعد حوكمة الشركات (corporate governance). ثالثاً، تقديم حوافز ضريبية ورسوم منخفضة للشركات الناشئة والمستثمرين الأجانب، خصوصاً في القطاعات الاستراتيجية مثل التكنولوجيا والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي. رابعاً، تطوير خدمات دعم للشركات لتسهيل الامتثال للقوانين واللوائح المالية (regulatory compliance)، ما يقلل البيروقراطية ويجعل تجربة الأعمال أكثر ease of doing business. 

من المهم التأكيد أن السعودية لا تحتاج إلى نسخ نموذج ديلاوير حرفياً، إذ لكل دولة خصوصياتها القانونية والاقتصادية، لكن الجوهر الذي يمكن الاستفادة منه هو أن القوانين الذكية والمحاكم المتخصصة والخدمات الداعمة للشركات هي ما يصنع بيئة استثمارية جذابة وآمنة. وبتطبيق هذه الفلسفة مع الإصلاحات السعودية، يمكن للمملكة أن تصبح مركزاً استثمارياً منافساً على مستوى العالم، يجذب الشركات الكبرى والمستثمرين الدوليين، ويعزز الاقتصاد المحلي ويحفز الابتكار وريادة الأعمال. 

يمكن القول إن تجربة ديلاوير درساً مهماً: الاستثمار لا ينجح إلا في بيئة قانونية واضحة، وتنظيم مرن، وخدمات داعمة للشركات. والسعودية، بقيادة رؤية 2030، تمتلك الفرصة لتبني هذه العناصر بشكل ذكي ومتوافق مع خصوصياتها، لتصبح بيئة الأعمال فيها أكثر تنافسية، وجاذبة للمستثمرين المحليين والدوليين على حد سواء، وتحقق قفزتها النوعية نحو اقتصاد متنوع ومستدام.

 

خاص_الفابيتا