إشعال الأزمات او اتخاذ إجراءات من قبل أي طرف لإضعاف منافسيه قد يحقق الغاية منه او بعض أهدافه، لكن في ذات الوقت يفتح الباب للتفكير بأخذ خطوات وتوجهات من المنافسين تحميهم مستقبلاً وتبعدهم عن ذلك الطرف الذي أراد بقراراته أن يكرس هيمنته الاقتصادية والتجارية، فما يقرأ من اشعال أزمات بشكل غريب ومفاجئ أن المتسبب بها لديه معاناة كبيرة وتحديات عجز عن تجاوزها فلجأ لسياسة صدامية تصل إلى تكسير العظام إذا لزم الأمر.
وخير مثال كيفية معالجة اميركا لمشكلة تفاقم عجزها التجاري وارتفاع الدين السيادي لمستويات كبيرة جداً، فقد وصل إلى 38 تريليون دولار وهو رقم يفوق الناتج الاجمالي لاوروبا والصين مجتمعتين ويعادل حوالي 38 بالمائة من الناتج الاجمالي العالمي وأكثر من عشرة أضعاف ناتج قارة افريقبا التي تضم 54 دولة ويزيد بحوالي 25 %عن ناتج دول مجموعة بريكس بلس التي تصل نسبة سكان دولها لحوالي 46 بالمائة من سكان العالم؛ أي 3،5 مليار نسمة يعملون ليل ونهار ولا ينتجون بعام واحد ما يصل لحجم الدين السيادي الامريكي. أما الفوائد التي تدفع عليه فهي كفيلة بحل المشاكل الاقتصادية للدول الفقيرة.
ففرض الرسوم الجمركية على اكثر من 180 دولة وكيان من قبل الادارة الامريكية في ابريل الماضي كان هو الحل لمعالجة التحديات الثلاثة التي تعد عنوانا رئيسيا في برنامجها الاقتصادي، وهي خفض عجز الموازنة وكذلك الميزان التجاري للوصول للجم الدين السيادي والتأسيس لخطة يتراجع فيها خلال السنوات العشر القادمة، لكن بالمقابل بقدر ما ان واشنطن ستزيد عائداتها من الرسوم وتعيد صياغة علاقاتها التجارية مع أكبر شركائها الصين واوروبا وكندا واليابان وكوريا والمكسبك والهند، لكن المنافع التي ستتحقق ستجلب معها خسائر كبيرة من جهة اخرى فحالياً الدول التي فاوضتها اميركا ووقعت معها اتفاقيات ومن ستوقع معهم لاحقاً كالصين وكوريا الجنوبية وكندا بدأوا يعملون بشكل كبير ومتسارع على تخفيض اعتمادهم ليس على التصدير الى السوق الامريكي فقط بل يشمل ايضاً التكنولوجيا الامريكية.
فقد منحت هذه الاجراءات الفرصة للدول التي فرضت عليها رسوم مرتفعة لكي تبحث عن تعزيز شراكاتها بأسواق جديدة وزادت من الانفاق على البحث العلمي لتستقل تكنولوجياً وهي تمثل اكبر الاقتصاديات العالمية، وبذلك فإن الوجه المظلم لسياسة سلاح الرسوم الجمركية هو أن تصبح اميركا معزولة خلال عقدين قادمين على ابعد تقدير؛ فبعدم وجود حلول جذرية لتحدياتها التي صنعتها بنفسها مثل ارتفاع ديونها وتخليها عن التصنيع لصالح الاستيراد من الصين وغيرها مستقبلاً بعد فقدان اثر الرسوم الجمركية وايضاً اتباعها طرقا ترغم شركات صناعية كبيرة عالمياً ان تفتتح خطوط انتاج داخل اميركا بمعالجة مشاكلها الاقتصادية سيعني زعزعت الثقة باقتصادها وبعملتها التي تعد عملة الاحتياط الاولى بالعالم وحجر الزاوية في مكانة اميركا الاقتصادية عالمياً وهذا كفيل بفقدانها للمركز الاول والثاني على الاقل من حيث المكانة بالاقتصاد العالمي ولنا بما يحدث في سوق الذهب خير مثال؛ فأحد اهم أسباب ارتفاعه هو ضعف الدولار بسبب المديونية الهائلة المحملة عليه وأضعفت تقييمه وقيمته.
فلقد بدات الدول بالبحث فعلياً عن أسواق جديدة ووضعت خططا للاعتماد الذاتي على تكنولوجيا محلية وتبرز الصين بشكل كبير في هذا الجانب، وكذلك اوروبا بدأت خطط عمل وتحركات تعيد صياغة علاقتها بأميركا وتتجه للعالم بسياسات تقدمها كند ومنافس وشريك بديل لاميركا في كثير من المجالات، والأمر لا يقتصر فقط في طرح الامثلة على اميركا فالعالم بعد ازمة كورونا استشعر خطورة تراخيه في تأمين سلاسل الامداد واعتماده الكبير على مصانع الصين فبدأ التحرك لزيادة الانتاج محلياً في كثير من الدول، وحتى حالياً اخذت الصين اجراءات متشددة بخصوص تصدير المعادن النادرة وهي التي تمتلك نصيب الأسد منها عالمياً انتاجاً وتصديراً، فاتجهت الدول المحتاجة لهذه المعادن للاستثمار في دول تمتلك هذه الخامات وعلى رأس من يتحرك بشكل كبير اميركا حبث وقعت مع اوكرانيا واستراليا اتفاقيات بشأن الاستثمار في المعادن النادرة وتتجه لافريقبا كي تؤمن احتياجها من تلك المعادن التي تدخل بصناعات حيوية جداً كالصواريخ والسيارات الكهربائية وغيرها.
العالم أمام خيارين إما الشراكة التي تعزز من نمو الاقتصاد العالمي وتمنح الدول فرصة جذب الاستثمارات ومعالجة ملفاتها وتحدياتها الاقتصادية المهمة او الاتجاه للحروب التجارية بهدف تعطيل المنافسين، ولن يحقق ذلك اي فائدة مستدامة فحتى انتصار طرف على اخر بهذه الحرب لا يعني استمرار تفوقه مستقبلاً فهذه الازمات والحروب المفتعلة اكبر موجه للدول كي تعتمد على نفسها بكثير من المجالات او تغير بوصلة شراكاتها واستثماراتها بعيداً عن أي دولة تتخذ اجراءات بهدف اضعاف المنافس والتي تهرب للامام بهذا النهج بدلاً من ان تعالج مشاكلها بالشكل الصحيح الذي لا يفقدها ثقة العالم بالتعامل معها فمن لم يصب بأذى هذه الاجراءات سيبدا التفكير والاستعداد الاستباقي بحماية اقتصاده وتنويع علاقاتها وشراكاتها وسياساته الانتاجية داخلياً قبل ان يواجه فهل مشابه من اي طرف يوماً ما.
نقلا عن الجزيرة

