طروحات بعض المتخصصين من المثقفين في العالم العربي حول مفهوم القوة الناعمة انحصرت غالبيتها في الأعمال الفنية والروايات والصحافة والإعلام، وهو ما يعد طرحاً محدوداً لهذا المصطلح الذي ينسب لأستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد جوزيف ناي وضمّنه لمؤلفاته بدايةً من عام 1990م، إلا أن هذا المفهوم الجديد في عالم كان يرى أن الانتشار والتأثير والسيطرة تأتي عبر القوة العسكرية أو بشكل عام قوى الإكراه ليغير بدراساته التي خلص فيها لنظرية جديدة تقوم على التأثير من خلال الإقناع عبر مؤثرات أكثر قبولاً مدعومة من قبل منظمات متنوعة الأدوار ومن بين تلك الأدوات كان الشق الثقافي والإعلامي لكن ذلك قد لا يعد تميزاً نادراً إذ يمكن لأي دولة أو منظمة أن تقوم به إذا وضعت الخطط المناسبة له فكل مجتمع في العالم يمتلك ثقافة ملهمة ويمكن أن ينشئ إعلاما قويا، خصوصا مع التطور بالإعلام الجديد.
إلا أن ماهو مؤثر بشكل مميز ويعد من أقوى أدوات القوة الناعمة هي الصناعة والتكنولوجيا والعلامات التجارية؛ فدولة مثل ألمانيا استطاعت عبر علامات تجارية واسعة الانتشار عالمياً ومن أهمها شركات صناعة السيارات مثل مرسيدس وبي ام دبليو وكذلك الصناعات التقنية والطبية الأخرى أن ترسخ مفهوم الثقة بألمانيا وجودة كل عمل يقومون به مما أكسبهم موثوقية عالمية كبيرة استفاد منها اقتصادهم بشكل كبير، بل أصبحت الدولة موثوقة ولها مصداقية عالمية وذات الأمر بالنسبة لأميركا المتفوقة بمجالات عديدة، لكن التكنولوجيا الحديثة والابتكارات ومراكز البحث التي تعمل ليل نهار، والتفوق الطبي أيضاً رسخ فكرة إنها الأقوى عالمياً يضاف لذلك كل عناصر القرة الأخرى لديها لكن الحديث عن القوة الناعمة التي جعلت من المدنية الأمريكية ثقافة واسعة الانتشار.
وذات الأمر لعبته فرنسا عبر صناعات متميزة بالعطور والأزياء حيث أصبحت شركاتها المتخصصة بهذه المجالات من القوى الناعمة التي تميزها عالمياً، ولذلك تعد من بين أكبر ثلاث دول بالعالم سياحياً، وتميز الإنجليز أيضا بالانضباط والدقة في الإنجاز وصدروا للعالم مفاهيم إدارية فأصبح أي تنظيم متقن يقال أنه كالمعايير الإنجليزية يضاف لذلك تميزهم بأنواع معينة من الصناعات عالية الجودة والفخامة مثل سيارات رولز رايس فكل ذلك قدمهم للعالم عبر قوة ناعمة رسخت قناعات ثابتة بقدراتهم وأهمية التعاون معهم، وهناك أمثلة كثيرة لدول نشطت بهذا التوجه قبل أن يصنف كمصطلح قوة، كما أن تقديم المساعدات للدول الأشد حاجة وبناء مشاريع حيوية لهم مثل المطارات والمدارس والمستشفيات وبنى تحتية وخدمات مهمة، وكذلك التجارة تعد جميعها من القوة الناعمة وتبرز الصين في ذلك حالياً بشكل واسع.
مفهوم القوة الناعمة أصبح يشمل كافة المجالات، ولذلك لابد من الاهتمام بكل ما يمكن أن يتحول أحد وجهه إلى قوة ناعمة سواء في امتلاك الثروات الطبيعية أو قطاعات الصناعة والخدمات والتكنولوجيا خصوصاً الذكاء الاصطناعي وما يمكن أن ينتج عنه من تطبيقات وحلول تصدر للعالم لتكون قوة ناعمة ذات تأثير بالغ ينعكس بمنافع اقتصادية وتوسع في التبادل التجاري ومجالات أخرى فكرية وثقافية.
نقلا عن الجزيرة


