سوقٌ عند القمّة… ولكن ليس «دوت كوم» جديدة: لماذا تتحمّل المضاعفات المرتفعة وزنها هذه المرّة؟

19/10/2025 1
أحمد عزام

الأسهم الأميركية تطرق قمماً متتالية فيما الذهب يحافظ على لمعانه، والاقتصاد السياسي يزداد توتراً. المقارنة السهلة تقول: “إنها فقاعة أخرى.” الأرقام تقول غير ذلك: ربحية قياسية، ميزانيات أصلب، ونمو أرباح متوقَّع يُعيد تعريف معنى “الغلاء” في شاشات اليوم.

قممٌ بلا حماسة عمياء

المؤشرات الأميركية تتقدّم تحت سماء ملبدة: سوق عمل يبرد تدريجياً، ثقة مستهلك متقلّبة، تعقيدات تجارية وجيوسياسية، وإغلاق حكومي يقطع البيانات. في فتراتٍ كهذه كانت الأسواق قديماً تتعثّر شهوراً؛ أمّا الآن فتتجاوز الضوضاء لأنّ سردية الأرباح أقوى من سردية المخاطر. هذا لا يعني أن السياسة بلا أثر، بل يعني أن ماكينة النتائج راسخة بما يكفي لابتلاع الأخبار السيئة إن جاءت ضمن النطاق المتوقع. الفارق النفسي أساسي: 1999 كانت تسعيراً لوعدٍ تقني غير مُختبَر؛ 2025 هي تسعيرٌ لقدرة تشغيلية مجرَّبة وهوامش لم تعد استثناءً عابراً.

ربحية تغيّر قواعد التقييم

حين نقول إن مضاعف الربح الآجل عاد إلى جوار مستويات ذروة الدوت كوم، تبدو الجملة مخيفة. لكن التفصيل يبدّد نصف الخوف: العائد على حقوق المساهمين في المؤشر يدور حول 18% في السنوات الأخيرة—قراءة ممتدة لم يعرفها السوق لعقود—بينما انخفضت الرافعة المالية إلى قرب 100% دَين/حقوق بعدما كانت تتجاوز الضعف في أواخر التسعينات. ما الذي يترتب؟ أنّ كل “نقطة مضاعف” اليوم مسنودة بهامشٍ أعلى ومخاطر ميزانية أدنى. قادة المؤشر أنفسهم يقدّمون صورةً أكثر تماسكاً: عائدات رأسمالية مرتفعة مع كلفة تمويلٍ يمكن التحكّم بها، ما يمنح الأسعار قدرةً أكبر على الوقوف من دون عكّاز السياسة النقدية.

ماذا تسعّر الشاشة فعلاً؟

هناك طريقتان معقولتان لقراءة توقّعات السوق: الأولى “أحلام المحلّلين”، والثانية “الرياضيات الباردة”. على الورق، الإجماع يرى أرباح S&P 500 تنمو بنحو 10% سنوياً لثلاث إلى خمس سنوات—أعلى من متوسط تاريخي يقارب 7%. لكن القراءة الضمنية للنمو من خلال الفارق بين كلفة حقوق الملكية (~10%) وعائد الأرباح الآجل (~4.4%) تُعطي رقماً أكثر تواضعاً: 5.6% نمواً سنوياً متوسط الأجل للمؤشر ككل، ونحو 8.6% للثمانية الكبار مجتمعين. هذه ليست قفزاتٍ خيالية؛ إنها عقود تنفيذ: افعلوا ذلك، وتحصلون على تثبيت المضاعفات الحالية، ومعها مجموع عائد يقارب 6.8% سنوياً بإضافة توزيعات (~1.2%). ليس هذا عائد العقد الماضي، لكنه عائد سوقٍ ناضجة لا تطير كل عامين.

الفارق الهيكلي مع 2000: من الوعد إلى التحصيل

في ذروة الإنترنت، اشترى المستثمرون “حصةً” في مستقبلٍ مفترض، فيما الأرباح تعاند. اليوم، الجزء الأكبر من القيادة السوقية يربح فعلاً: هوامش تشغيلية عريضة، انضباط في الإنفاق الرأسمالي على مستوى “الشركة المتوسطة”، وإدارة توازن دقيقة بين النمو والتوزيعات وإعادة الشراء. نعم، الإنفاق على الذكاء الاصطناعي ضخم—لكن المفارقة أن التدفق النقدي الحر للوسيط لم ينهر. هذا هو الفارق الجوهري: الدفتر الآن مليء بالأرقام، لا بالأحلام فقط. لذلك يمكن أن تكون المضاعفات المرتفعة عقلانية إن ظلّت الربحية متينة.

الذكاء الاصطناعي: بنية تحتية لعشريةٍ كاملة

يدفع الذكاء الاصطناعي دورة استثمارية تشبه—من حيث الأثر التراكمي—مثيلاتها الكبرى: الكهرباء، الإنترنت، الهواتف الذكية. العبرة من الدوت كوم واضحة: من اشترى في القمّة واحتفظ ربع قرن خرج رابحاً سبع مرات شاملة التوزيعات؛ ومن ركب مبكّراً تضاعفت ثروته بأضعافٍ مضاعفة. ليس لأن الطريق كان ممهّداً، بل لأن التقنيات التحويلية تُسدِّد فاتورتها بمرور الوقت. اليوم، تسعير السوق لا يفترض معجزات: يريد نموّاً متوسطاً ثابتاً ويميل إلى مكافأته بالمداومة، لا بالانفجارات.

المخاطر التي لا يجوز تهميشها

الخطر الأول هو ارتداد الهوامش إلى المتوسط. لو تراجعت الربحية الهيكلية نحو ~7%، يصبح مضاعف اليوم باهظاً فعلاً. الخطر الثاني سعر المال: تيسيرٌ أسرع من اللازم قد يدعم التقييمات اسميّاً لكنه يرسّخ تضخماً يأكل العائد الحقيقي؛ وتشديدٌ مفاجئ قد يكسر شهية المخاطرة ويضغط على مكرّرات النمو. الخطر الثالث التركيز القيادي: وزنٌ ثقيل لعددٍ محدود من الشركات يربط المؤشر بمفاجآتها التنظيمية والتنافسية. المعالجة هنا ليست سحراً: تنويعٌ حقيقي في العوامل (قطاعات، مناطق، أنماط قيمة/نمو) وإدارة توقّعات ترى تقلب العائد جزءاً من اللعبة لا خللاً فيها.

كيف يقرأ المستثمر هذا المشهد؟

القاعدة التي يثبتها هذا السوق بسيطة: الأرباح أولاً. طالما أنّ الشركات تلبّي النمو الضمني، تستطيع التقييمات المرتفعة الصمود من دون سندٍ استثنائي من السياسة النقدية. التركيز التكتيكي قد يميل إلى جودة عالية—ميزانيات متينة، هوامش مرنة، قدرة تسعير واضحة—مع حساسيةٍ أقل لصدمة الفائدة. أمّا استراتيجياً، فالمكسب الأكبر يذهب غالباً لمن يفهم أنّ الدورات التقنية لا تُقاس بربعٍ مالي بل بعقدٍ كامل، وأنّ “إدارة المخاطرة” لا تعني الهروب من السوق بل اختيار مواضع التعرّض بعقلٍ بارد.

قممٌ تحتاج إلى صبرٍ لا إلى تصفيق

هذه ليست فقاعةً تلمع في الظلام ثم تنطفئ. لكنها أيضاً ليست دعوةً لشراءٍ بلا سؤال. إنْ حافظت الربحية على صلابتها وأثبت الذكاء الاصطناعي أثره التشغيلي المتكرّر، ستبدو المضاعفات الحالية «منطقية» بعد سنوات قليلة. أمّا إن خان التنفيذ أو ترهّلت الهوامش، فسينكشف السقف بسرعة. بين حسابات النمو وطبول السياسة، يبقى السؤال معلّقاً على شاشةٍ واحدة: هل نملك صبر المستثمر لا حماسة المضارب؟

 

خاص_الفابيتا