شهد سوق الأسهم السعودية خلال السنوات الماضية نشاًطا ملحوًظا في الاكتتابات الأولية، حيث تسابقت الشركات للدخول إلى السوق المالية في ظل تطورات اقتصادية وتنظيمية جاذبة وهذا يعكس عمق السوق وثقة المستثمرين المحليين والدوليين. ورغم النجاح الكبير الذي حققته هذه الاكتتابات، إلا أن هناك ظاهرة متكررة بدأت تثير قلق المستثمرين، وهي تخارج المؤسسين بعد الإدراج من خلال بيع كميات كبيرة من أسهمهم مباشرة في السوق دون تنظيم واضح. هذه الممارسة تؤثر سلبًا على ثقة المستثمر، وتفتح الباب للتقلبات الحادة في أسعار الأسهم. وهنا تبرز الحاجة إلى قصر بيع المؤسسين بعد انتهاء فترة الحظر على الطرح الثانوي المنظم فقط كأداة تنظيمية لحماية السوق.
ما هو الطرح الثانوي؟
الطرح الثانوي للأسهم (Secondary Offering) هو عملية مالية يتم فيها بيع أسهم مملوكة مسبقًا من قبل مساهمين حاليين في شركة مدرجة في السوق المالية، مثل المؤسسين أو المستثمرين الاستراتيجيين أو الجهات الحكومية، دون أن يتضمن ذلك إصدار أسهم جديدة من قبل الشركة نفسها. في هذا النوع من الطرح، لا تدخل أي أموال جديدة إلى خزينة الشركة، إذ تكون العائدات من البيع من نصيب المالكين الأصليين للأسهم .
الطرح الثانوي يُعد وسيلة منظمة لتخارج بعض المساهمين دون التأثير السلبي على السوق، بخالف البيع المباشر في السوق المفتوح الذي قد يسبب ضغًطا سعريًا على السهم. ولهذا السبب، غالبًا ما يكون الطرح الثانوي مقيدًا بشروط تنظيمية ويُعلن عنه رسميًا ليمنح المستثمرين فرصة متكافئة للمشاركة وتحديد السعر العادل لسهم.
الطرح العشوائي يضر بالسوق :
الطرح العشوائي ألسهم المؤسسين في السوق المالية، خصوًصا بعد انتهاء فترة الحظر النظامية التي غالبًا ما تمتد لستة أشهر من تاريخ الإدراج، يمثل ظاهرة مقلقة تؤثر سلبًا على أداء السوق وثقة المتعاملين فيه. فقد لوحظ أن بعض المؤسسين يلجؤون إلى بيع كميات كبيرة من أسهمهم مباشرة في السوق دون اتباع آليات طرح منظم مثل الطرح الثانوي، مما يؤدي إلى عدة نتائج سلبية، أبرزها اهتزاز ثقة المستثمرين في الشركة؛ إذ يُفسر هذا السلوك أحيانًا على أنه مؤشر على فقدان المؤسسين الثقة في مستقبل شركتهم، خاصة إذا تم البيع بشكل مفاجئ ودون سياق استثماري واضح. كما أن هذا النوع من البيع المفاجئ يؤدي إلى ضغط كبير على سعر السهم، ويخلق تقلبات غير مبررة في حركة التداول، مما يشّوش على آلية العرض والطلب ويؤثر سلبًا على عدالة التداول وشفافية السوق. بالإضافة إلى ذلك، قد يتسبب الطرح العشوائي في انخفاض حاد بأسعار الأسهم نتيجة زيادة غير مدروسة في المعروض، وهو ما يفتح المجال لتأويلات سلبية من قبل المستثمرين الأفراد والمؤسسات حول أداء الشركة
وتوقعاتها المستقبلية. كما أن البيع في هذه الحالات قد يكون بسعر لا يعكس القيمة العادلة للشركة أو يكون السعر تحت تأثير زخم السوق، ما يؤدي إلى وصوله لمستويات سعرية تفوق الأداء المالي الفعلي للشركة. وعندما يستغل المؤسسون هذه الفجوة بين السعر السوقي والسعر العادل لبيع كميات ضخمة من أسهمهم بشكل مباشر في السوق دون آلية طرح منظم، فإن ذلك يؤدي إلى ضخ سيولة كبيرة من المستثمرين مقابل أصول قد لا تستحق هذا التقييم، وهو ما يشّكل ضرًرا على صغار المستثمرين والمؤسسات على حد سواء. كما يُفّسر هذا السلوك أحيانًا كتخارج في توقيت ذكي للاستفادة من التسعير المرتفع، مما يثير الشكوك حول ثقة المؤسسين في استمرارية أداء الشركة. وعليه يصبح من الضروري قصر عمليات التخارج الكبيرة على آلية " لطرح الثانوي" المنظم، الذي يضمن عدالة التقييم وشفافية العملية وحماية التوازن بين العرض والطلب دون إرباك السوق.
نماذج ناجحة للطرح الثانوي في السوق السعودي:
شهدت السوق المالية السعودية تجربتين بارزتين في تنفيذ الطرح الثانوي بشكل منظم واحترافي، تمثلان نموذًجا يُحتذى به لما يجب أن تكون عليه عمليات التخارج من قبل المساهمين الكبار بعد الإدراج:
1 .الطرح الثانوي لشركة الاتصالات السعودية (STC):
في ديسمبر 2021، نفذت شركة الاتصالات السعودية بالتنسيق مع صندوق الاستثمارات العامة ) كمساهم بائع ( طرًحا ثانويًا لحصة من أسهمها بلغت نسبته 6% من رأس المال، وذلك من خلال عملية بناء سجل الأوامر للمؤسسات والمستثمرين الأفراد. تميز هذا الطرح بالشفافية الكاملة، حيث أُعلن عنه مسبقًا، وحددت فيه الكمية المطروحة والجهات المستفيدة، وتم تسعيره وفق آلية السوق. وقد ساهم ذلك في تعزيز ثقة المستثمرين، كما لم ينتج عن الطرح أي تقلبات حادة أو مفاجئة في سعر السهم، مما يدل على نجاح العملية تنظيمياً وفنياً.
2 .الطرح الثانوي لشركة أرامكو السعودية:
في يونيو 2024، نفذت شركة أرامكو، عبر الحكومة السعودية (المساهم البائع)، طرًحا ثانويًا ضخًما تضمن بيع حوالي 1.545 مليار سهم، بقيمة إجمالية تجاوزت 12 مليار دولار، في واحدة من أكبر عمليات الطرح الثانوي في العالم. وقد تم هذا الطرح بإفصاح ووضوح عاليين، وبإشراف دقيق من هيئة السوق المالية، وشهد إقبالا كبيًرا من المستثمرين المحليين والدوليين. ورغم الحجم الكبير للطرح، فإن السوق استوعبه بسلاسة، دون أن يتسبب في اضطراب سعري كبير، مما يعكس كفاءة السوق وقوة التنظيم.
هذان المثالان يبرهنان على أن الطرح الثانوي المنظم يمكن أن يكون أداة فعّالة لتحقيق أهداف التخارج للمؤسسين أو المساهمين الرئيسيين، دون الإضرار باستقرار السوق أو التأثير سلبًا على ثقة المستثمرين. بل إن تطبيق هذا النموذج يسهم في ترسيخ مبادئ العدالة والحوكمة ويعزز من جودة الإدراج في السوق المالية السعودية.
في ختام ، من المهم التأكيد أن قيام المؤسسين ببيع جزء من أسهمهم بعد الإدراج هو حق مشروع، لكنه لا يجب أن يُمارس بطريقة عشوائية تُربك السوق أو تضر بثقة المستثمرين. إن الطرح الثانوي ليس مجرد وسيلة لتصريف الأسهم، بل هو أداة تنظيمية واقتصادية تضمن الشفافية والانضباط، ويجب أن يكون هو المسار الوحيد المسموح به ألي عملية تخارج بعد انتهاء فترة الحظر النظامية. فبدون هذا التنظيم، سيبقى السوقُ عرضة لهزات مفاجئة وتقلبات سعرية تضر بجودة الإدراج وتضعف ثقة المستثمر المحلي والأجنبي.
الحفاظ على استقرار السوق المالية السعودية لا يتطلب فقط جذب الشركات القوية للاكتتاب، بل كذلك ضبط سلوك المؤسسين بعد الإدراج، وقصر التخارج على آليات تضمن الإفصاح المسبق، وتحدد كمية الأسهم المباعة، وتوضح الجهة المستفيدة. إن فرض الطرح الثانوي كشرط إلزامي لأي عملية بيع كبرى بعد الإدراج سيسهم في تعزيز ثقة المستثمرين، ويضمن حماية السوق من الممارسات غير المنظمة، ويُرّسخ مبادئ الشفافية والحوكمة، مما يدفع السوق نحو مزيد من النضج والاستدامة.
خاص_الفابيتا