من يختار الرئيس التنفيذي؟ ومتى ينبغي إعفاؤه؟

06/11/2025 2
د. عبد الرؤوف المبارك

في الشركات المساهمة، لا يوجد قرار أكثر حساسية من تعيين أو إعفاء الرئيس التنفيذي. هذا المنصب لا يمثّل مجرد وظيفة عليا، بل يعكس فلسفة الشركة، ورؤيتها، وقدرتها على تحويل الاستراتيجية إلى نتائج واقعية. في كل شركة ناجحة، ستجد خلف الكواليس رئيسًا تنفيذيًا استثنائيًا، وفي كل شركة متعثرة، ستجد خللًا في القيادة. حيث يشكّل منصب الرئيس التنفيذي أحد أكثر الأدوار تأثيرًا في الأداء العام للشركة واستقرارها المالي والتشغيلي لكن السؤال يبقى: من يملك سلطة اختيار هذا القائد؟ وما المواصفات التي تضمن نجاحه؟ ومتى يصبح رحيله ضرورة؟

من يختار الرئيس التنفيذي؟

في الشركات العائلية أو الصغيرة، قد يُعيّن الرئيس التنفيذي بقرار مباشر من المؤسس أو المالك. لكن في الشركات المساهمة، حيث تتوزع الملكية بين آلاف المساهمين وتخضع للرقابة والتنظيم، يختلف الأمر جذريًا حيث ان مجلس الإدارة هو الجهة المخوّلة قانونًا باختيار الرئيس التنفيذي. هذا المجلس يمثل المساهمين، ويتحمل مسؤولية ضمان تحقيق مصالحهم من خلال تعيين قيادة تنفيذية كفؤة.

تتم عملية اختيار الرئيس التنفيذي عادة عبر لجان متخصصة داخل مجلس الإدارة، وتخضع هذه العملية لمعايير دقيقة تشمل المؤهلات الأكاديمية والخبرة التنفيذية وسجل القيادة السابقة ومدى ملاءمة المرشح لثقافة الشركة وظروفها الاستراتيجية الحالية والمستقبلية.

لكن الأهم من الإجراءات، هو الفلسفة التي تحكم هذا القرار. فاختيار رئيس تنفيذي لا يُبنى فقط على الكفاءة المهنية، بل على مدى ملاءمته لمرحلة الشركة. قد تحتاج الشركة في بعض الفترات إلى قائد إصلاحي يواجه التحديات ويعيد الهيكلة، وفي فترات أخرى إلى مدير نمو يوسّع الأسواق ويقود التوسع. لذلك، فإن اختيار القائد هو قرار استراتيجي يعكس رؤية مجلس الإدارة لمستقبل الشركة.

من هو الرئيس التنفيذي؟ وما أبرز صفاته؟

الرئيس التنفيذي (CEO – Chief Executive Officer) هو أعلى منصب إداري في أي شركة أو مؤسسة فهو ليس مجرد منفّذ للقرارات أو مديرٍ يومي للعمليات، بل هو القائد الذي يُعقد عليه الأمل في تحويل الاستراتيجية إلى واقع، والرؤية إلى نتائج. وفي عالم الشركات المساهمة، لم يعد تقييم هذا المنصب مقتصرًا على أرقام الأرباح والخسائر، بل اتسع المفهوم ليشمل قدرة القائد على إدارة النمو، وتحفيز فرق العمل، وتعزيز الثقافة المؤسسية. فنجاح الشركة في تحقيق الأرباح قد يكون مؤقتًا، لكن نجاحها في بناء بيئة مستدامة يقودها رئيس تنفيذي يتمتع بصفات جوهرية، هو ما يضمن التفوق الحقيقي.

ومن أبرز الصفات التي تميز الرئيس التنفيذي الفعّال هو الذكاء الاستراتيجي والذي يُقصد به قدرته على قراءة اتجاهات السوق بدقة، وتحديد الأولويات، وتحويل الأهداف الكبرى إلى خطط تنفيذية ملموسة. القائد الناجح لا يكتفي بردّ الفعل، بل يستبق التغيرات، ويعيد توجيه الموارد بما يخدم تطور الشركة ويعزز موقعها التنافسي.

إلى جانب ذلك، تأتي القيادة التحفيزية وهي سمة لا غنى عنها في بيئات العمل المعاصرة. فالرئيس التنفيذي يجب أن يكون مصدر إلهام للموظفين، وقادرًا على خلق بيئة قائمة على الثقة والتمكين، لا على السيطرة والتبعية. الموظفون في الشركات الناجحة لا يعملون فقط من أجل الأجر، بل من أجل قائد يؤمن بهم، ويمنحهم الشعور بالمشاركة في تحقيق النجاح.

ومن الصفات التي باتت أساسية في زمن التغيرات المتسارعة هي المرونة والقدرة على التكيف. فالرئيس التنفيذي الذي لا يجيد التعامل مع المتغيرات التكنولوجية والتنظيمية، أو يتمسّك بنمط تقليدي في عالم سريع التحول، غالبًا ما يُصبح عبئًا على المؤسسة. القدرة على إعادة التمحور، وتعديل الاستراتيجيات، والتفاعل مع الأزمات بهدوء وفاعلية، هي خصال ضرورية لمواكبة التغيرات العالمية المتسارعة.

ولا يمكن الحديث عن القيادة دون الإشارة إلى النزاهة والشفافية وهما عنصران رئيسيان في منظومة الحوكمة. فالرئيس التنفيذي هو أول من يجب أن يجسّد القيم المؤسسية ويقدّم نموذجًا يُحتذى في الأخلاقيات المهنية. أي إخلال بهذا الجانب يفتح الباب أمام المخاطر القانونية والسمعة السيئة، ويهز ثقة المساهمين والموظفين على حد سواء.

وتُعد مهارات التواصل من الركائز التي لا يمكن إغفالها. فالرئيس التنفيذي يتواصل باستمرار مع مجلس الإدارة، والفرق الداخلية، والجهات الرقابية، والإعلام، وأصحاب المصلحة الآخرين. وكلما كان أكثر وضوحًا واتزانًا وصدقًا في تواصله، زادت فعاليته في قيادة المؤسسة داخليًا وخارجياً.

من جهة أخرى، يتطلب المنصب جرأة في اتخاذ القرارات. فـالقدرة على اتخاذ قرارات صعبة في الوقت المناسب، دون تردد، ثم تحمّل نتائجها وتقييمها لاحقًا، هي ما يميز القائد التنفيذي عن المدير التقليدي. لأن بيئة الأعمال اليوم لا تحتمل التراخي أو المراوغة.

وأخيرًا، فإن الفهم العميق للقطاع الذي تنشط فيه الشركة، يشكل ميزة تنافسية للرئيس التنفيذي. فالمعرفة الفنية والتنظيمية الدقيقة تعزز قراراته، وتمنحه مصداقية أكبر أمام الفرق التنفيذية والجهات الرقابية. هذا مهم بشكل خاص في القطاعات المتخصصة أو الخاضعة لأنظمة تنظيمية معقدة، حيث لا يكفي امتلاك مهارات إدارة عامة.

متى ينبغي إعفاء الرئيس التنفيذي

ليس من السهل اتخاذ قرار بإعفاء الرئيس التنفيذي، خاصة في الشركات المساهمة الكبرى، حيث يرتبط هذا المنصب بشكل مباشر بثقة المستثمرين، واستقرار الشركة، وصورتها أمام السوق. إلا أن القيادة، مهما كانت قوية أو ذات سجل مشرف، ليست بمنأى عن التغيير. فالرئيس التنفيذي لا يُختار ليبقى إلى الأبد، بل ليقود مرحلة معينة من عمر الشركة، فإذا ما تراجعت ملاءمته لتلك المرحلة، أو تعارضت قراراته مع مصلحة المساهمين، فإن التغيير لا يصبح خياراً بل ضرورة لتحديد مستقبل الشركة.

تبدأ ملامح الإعفاء حين تفشل الإدارة التنفيذية في تحقيق الأهداف الاستراتيجية المعتمدة من مجلس الإدارة. فالفشل المالي المزمن، أو تكرار الإخفاق في الأداء التشغيلي، رغم الدعم والوقت الكافي، يعكس خللًا في التوجيه التنفيذي، ويتطلب مساءلة واضحة. كما ان الأمر لا يتوقف عند الأرقام، فضعف الأداء قد يُخفى أحيانًا تحت أرباح قصيرة المدى، بينما يعاني الهيكل الداخلي، أو تفقد الشركة قدرتها على الابتكار ومواكبة السوق. وفي هذه الحالة، يتجاوز التقييم حدود القوائم المالية إلى عمق أكبر: هل لا تزال القيادة تملك الرؤية، والقدرة، والشغف، لتحمل الشركة إلى الأمام؟

كذلك، عندما تتدهور العلاقة بين الرئيس التنفيذي ومجلس الإدارة، نتيجة لفقدان الثقة، أو الغموض في القرارات، أو التفرد بالرأي، يصبح الإعفاء ضرورة للحفاظ على توازن الحوكمة. فالرئيس التنفيذي لا يُفترض أن يعمل بمعزل عن المجلس، بل ضمن شراكة واضحة تقوم على الشفافية والتكامل. وعندما يختل هذا التوازن، فإن بقاءه في المنصب قد يؤدي إلى مزيد من الانقسام، وربما إلى خسائر أكبر على المدى المتوسط.

ومن المؤشرات المهمة أيضًا أن تتدهور بيئة العمل داخل الشركة بشكل ملحوظ. فارتفاع معدل الاستقالات، أو انخفاض الروح المعنوية، أو ظهور صراعات داخلية مزمنة، قد تكون كلها انعكاسًا لأسلوب قيادة لا يلائم الثقافة المؤسسية، أو يفشل في تحفيز الفرق. وإذا كان الموظفون لا يؤمنون بالقائد، فمن الصعب توقع أن تسير الشركة الى مزيد من النجاح والتقدم.

ثم هناك الجانب الأخلاقي والحوكمي. فحتى في غياب التجاوزات القانونية المباشرة، فإن وجود شبهات حول تضارب المصالح، أو استخدام المنصب لتحقيق مكاسب شخصية، أو إخلال في التعامل مع المستثمرين والجهات التنظيمية، كل ذلك يضرب في جوهر الثقة. ولا شيء يضر بشركة مساهمة أكثر من قيادة تهتز صورتها امام الشركات المتعاونة والجمهور.

ولا ننسى أن بعض الرؤساء التنفيذيين يبرعون في مرحلة معينة، ثم يجدون أنفسهم غير قادرين على مواكبة المرحلة التالية. فالقائد الذي نجح في بناء الشركة من الصفر قد لا يكون هو الأنسب لقيادتها نحو العالمية. وكذلك، من ينجح في إدارة الأزمات قد لا يمتلك أدوات التوسع والنمو. وهنا تظهر أهمية أن تكون المجالس الإدارية يقظة، تمتلك الشجاعة لاتخاذ قرار الإعفاء حتى في غياب الأزمات الظاهرة، لأن الزمن وحده كفيل بأن يحوّل الجمود إلى خطر كبير لمستقبل الشركة

لكن الأهم من كل ما سبق، هو أن يكون الإعفاء دائمًا قرارًا مؤسسيًا، لا شخصيًا. فالمسألة لا تتعلق بإرضاء مساهم غاضب، أو الاستجابة لضغط إعلامي، بل بتقييم شامل ومسؤول، يضع مصلحة الشركة فوق كل اعتبار. ولهذا، فإن وجود خطط تعاقب قيادي واضحة، وهيكل حوكمة فعّال، يُسهّل عملية الانتقال دون إرباك، ويضمن أن يُنظر إلى الإعفاء كخطوة تصحيحية ناضجة، لا كفشل في الإدارة.

في نهاية المطاف، الرئيس التنفيذي هو رأس الهرم التنفيذي، لكن الشركة كيان أكبر، وأكثر تعقيدًا، ولا يجوز أن ترتبط مصائرها بشخص واحد. وعندما يُصبح القائد عبئًا، أو يفتقر للأدوات التي تواكب التحديات، فإن التغيير يكون خدمة للشركة، لا تقليلاً من القائد.

الرئيس التنفيذي ليس معصومًا من التغيير، ولا محصّنًا من النقد. هو جزء من منظومة متكاملة يجب أن تخضع للتقييم المستمر. اختياره يجب أن يكون مبنيًا على الرؤية والكفاءة، لا على الولاء أو التاريخ. واستمراره يجب أن يُربط بالنتائج والثقة والقدرة على التجديد، وليس بالمجاملات أو الخوف من الفراغ.

ختاما الشركات التي تنجح في اختيار القائد المناسب في الوقت المناسب، وتغييره في الوقت الحاسم، هي الشركات التي تُحسن بناء مستقبلها، وتحمي استثمارات مساهميها، وتواكب تحولات السوق بثقة ومرونة.

 

خاص_الفابيتا