قروض الصناديق العقارية المتداولة.. رافعة للنمو أم عبء على العوائد؟

15/06/2025 0
حسين بن حمد الرقيب

في السنوات الأخيرة، أصبحت البنوك السعودية لاعبًا محوريًا في مسيرة التحول العمراني والاقتصادي الذي تعيشه المملكة، ومع انطلاق رؤية 2030، وما صاحبها من مشروعات تطوير عقاري هائلة، بدأت معالم التوسع في الإقراض العقاري تتضح، حتى أصبح من المعتاد أن نرى نسبًا متزايدة من محافظ البنوك الائتمانية موجهة إلى قطاع الإسكان والمشروعات العقارية، لكن وراء هذا الزخم الكبير، ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح، هل أصبح انكشاف البنوك السعودية على القطاع العقاري ظاهرة إيجابية تخدم النمو، أم أنه مظهر من مظاهر التركز الخطر الذي قد يحمل في طياته تهديدًا للاستقرار المالي؟

إذا ما عدنا قليلًا إلى الوراء، يمكننا أن نفهم كيف بدأت هذه العلاقة الوثيقة بين البنوك والعقار، فمع توسع الدولة في برامج الإسكان، مثل “سكني” والرهن الميسر”، وتوفير دعم حكومي مباشر لصالح المقترضين، نشأت بيئة منخفضة المخاطر جعلت من التمويل العقاري خيارًا جاذبًا للبنوك، حيث كان حجم الإقراض قبل الرؤية 162 مليار ريال ووصل الى نهاية الربع الأول 2025 إلى أكثر من 922 مليار ريال، مما يعني ضخ أكثر من 760 مليار ريال قروض عقارية غير القروض التي اشترتها الشركة السعودية لإعادة التمويل العقاري من البنوك بحدود 27 مليار ريال، ومع مرور الوقت لم يعد التمويل العقاري مقتصرًا على الأفراد الراغبين في تملك منزل، بل توسع ليشمل شركات التطوير العقاري، والمقاولين، والمشروعات السكنية والتجارية الضخمة، وصولًا إلى الاستثمار في الأراضي والمجمعات التجارية.

 

 

وبدأت الأرقام تتزايد حتى وصلت نسبة التمويل العقاري مع نهاية الربع الأول 2025 إلى نحو 30 % من اجمالي محفظة القروض المجمعة للبنوك العاملة داخل المملكة، منها ما يزيد على 699 مليار ريال موجه للقروض العقارية السكنية، وأكثر من 223 مليار ريال للشركات العقارية، ورغم أن هذه الظاهرة تنسجم مع توجه الدولة لتعزيز نسبة التملك وخلق بيئة عمرانية حديثة، إلا أن التركز الكبير في قطاع واحد يحمل في طياته مخاطر محتملة، فالمخاطر لا تظهر حين يكون السوق في حالة انتعاش، بل تنكشف عادة عندما تتغير الدورة الاقتصادية، ومع دخول المملكة مرحلة جديدة من السياسة النقدية، وبدء البنك المركزي السعودي في رفع أسعار الفائدة تماشيًا مع قرارات الفيدرالي الأميركي، بدأت تظهر أولى بوادر الضغط على القدرة الشرائية للأفراد، فكثير من المقترضين وجدوا أنفسهم مضطرين لمواجهة أقساط أعلى، في وقت يتزايد فيه عبء المعيشة، هذا الارتفاع في تكلفة التمويل يقلل من فرص الحصول على قروض جديدة، ويزيد من احتمالية التعثر، خاصة لدى المقترضين ذوي الدخول المتوسطة أو المرتفعة الالتزامات.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالمخاطر تمتد إلى جانب آخر أقل وضوحًا، لكنه أكثر تعقيدًا، وهو الشركات العقارية، هذه الكيانات، لا سيما المتوسطة منها، تعتمد في دورة أعمالها على التدفقات النقدية الناتجة من بيع الوحدات قيد الإنشاء، أو على التمويل المسبق من البنوك، وإذا ما تباطأ السوق أو واجه موجة تصحيح في الأسعار، فإن هذه الشركات قد تدخل في دوامة تعثر، مما يعني قروضًا غير محصلة ومشروعات متوقفة، ومع هذا لا يمكن القول إن الصورة قاتمة بالكامل، فالبنوك السعودية بحكم خضوعها لرقابة البنك المركزي تلتزم بمعايير حوكمة متقدمة، ولديها احتياطيات جيدة، ونسب تغطية مريحة للقروض المتعثرة، إضافة إلى ذلك فإن نسبة كبيرة من التمويل العقاري السكني مدعوم من الحكومة، إما عبر دعم الأرباح أو عبر ضمانات مباشرة، مما يقلل من المخاطر الائتمانية على البنوك، كما أن العديد من القروض العقارية مضمونة بأصول عينية ذات قيمة سوقية، يمكن الرجوع إليها عند الحاجة.

ومما يعزز الثقة أيضًا أن نسبة التعثر في القروض العقارية لا تزال ضمن الحدود المقبولة عالميًا، ولا توجد مؤشرات واضحة حتى الآن على وجود فقاعة عقارية تهدد النظام المالي، لكن في خضم هذا التوازن الدقيق، تبقى الحاجة ماسة إلى إدارة واعية لهذا الانكشاف، فالمطلوب ليس تقليص التمويل العقاري بشكل جذري، بل تنظيمه وتنويعه، وضمان ألا يتجاوز نسبًا صحية من إجمالي المحافظ البنكية، ومن المهم أن تبحث البنوك عن فرص تمويل في قطاعات أخرى، مثل التقنية، والصناعة، والطاقة المتجددة، والخدمات الصحية، لتخفيف الاعتماد المفرط على العقار، كذلك ينبغي تطوير سوق الرهن العقاري الثانوي، بما يسمح بتحويل جزء من القروض العقارية إلى أدوات مالية قابلة للتداول، مما يخفف من الضغط على ميزانيات البنوك ويتيح لها إعادة تدوير السيولة.

الصناديق العقارية المتداولة تطورت منذ إدراج أول صندوق ريت في سوق الأسهم السعودي عام 2016، لتصبح منصة رئيسة توفر دخلاً ثابتًا للمستثمرين الباحثين عن الاستقرار وسط تقلبات الاقتصاد، حيث يدير السوق نحو 19 صندوقًا مدرجًا، يعمل معظمها ضمن إطار توزيع أرباح لا يقل عن 90 ٪ من صافي الأرباح السنوية ولكن هذه الصناديق لا تخلو من ضغوط، وأبرزها ارتفاع تكاليف التمويل، فقد ارتفعت نسبة الاقتراض لدى بعض الصناديق إلى نحو 50 ٪ من حجم الأصول، مع وجود تكاليف تمويل تصل إلى عشرات الملايين سنويًا، مما أضعف قدرة الصناديق على توزيع المزيد من الأرباح بغض النظر عن ارتفاع دخل الإيجارات، كما أن هذه الصورة لا تخلو من زوايا مظلمة، فكما أن صناديق الريت السعودية نجحت في بناء قاعدة استثمارية واعدة، فإنها أيضًا واجهت تحديات عميقة قد تهدد استدامة عوائدها في المستقبل إذا لم تتم معالجتها بشكل جذري.

 

 

من أبرز هذه التحديات المبالغة في تقييم الأصول العقارية عند شرائها، خاصة خلال السنوات الأولى من انطلاق هذه الصناديق، ففي سبيل بناء محافظ عقارية بسرعة وكسب ثقة المستثمرين، لجأت بعض الصناديق إلى شراء عقارات بأسعار تفوق قيمتها السوقية الفعلية، وهو ما انعكس لاحقًا على ضعف العائد الاستثماري وعدم قدرة العقارات على توليد التدفقات النقدية المتوقعة، هذا النهج دفع كثيرًا من المستثمرين إلى التشكيك في استراتيجيات بعض مديري الصناديق، خصوصًا مع اكتشاف أن بعض الأصول المشتراة لا تمتلك مقومات تشغيلية قوية أو لم تخضع لدراسات جدوى متعمقة، وقد ترافق هذا مع اتساع الفجوة بين التقييم المحاسبي للعقار وبين قيمته السوقية الواقعية، ما أثر في قدرة الصناديق على تحقيق نسب إشغال مرتفعة أو رفع الإيجارات بما يتناسب مع تكاليف التشغيل والتمويل.

إضافة إلى ذلك من الملاحظ أن معظم صناديق الريت السعودية ركزت استراتيجيتها على شراء العقارات الجاهزة والمُدرة للدخل، دون خوض غمار تطوير مشروعات عقارية جديدة كما هو شائع في أسواق الريت المتقدمة مثل الولايات المتحدة وسنغافورة، ففي تلك الأسواق، تسعى صناديق الريت إلى خلق قيمة مضافة عبر الاستثمار في تطوير مشروعات من الصفر أو إعادة تأهيل أصول قائمة وتحويلها إلى مشروعات حديثة تناسب متطلبات السوق. هذا النوع من الابتكار العقاري يغيب في المشهد المحلي، مما يجعل النمو محدودًا ومعتمدًا على حركة السوق العقاري القائم فقط.

 

 

نقلا عن الرياض