من يتأمل حركة السيولة في السوق المالية السعودية يكتشف مشهدًا يتجاوز مجرد أرقام، مشهدًا يحمل أسئلة صريحة حول مدى واقعية الرهان الذي تبنّته هيئة السوق المالية على توازن المؤسسات فمنذ بداية العام، سجّلت المؤسسات السعودية صافي خروج يقارب 21 مليار ريال، في مقابل دخول أجنبي يناهز 20 مليارًا، ومع ذلك ظل الخطاب الرسمي يؤكد أن السوق أكثر نضجًا وأقل تقلبًا وأن المؤسسات هي من يمسك بزمام التوازن، لكن حركة السوق جاءت أقل انسجامًا مع تلك السردية، فالتقلب الذي كان يُتوقع تراجعه ازداد حدّة، والمؤشر تحرك في أيام قليلة صعودًا وهبوطًا بمئات النقاط عقب تصريحات من جهات رسمية، في إشارة واضحة إلى أن السوق ما زال يتفاعل مع الخطاب أكثر من تفاعله مع المعطيات الأساسية، وفي قلب هذا المشهد، تظهر مفارقة إضافية بارتفاع تداولات السعوديين عبر مؤسسات السوق المالية في الأسهم الأمريكية إلى 216 مليار ريال بالربع الثالث 2025، بنسبة نمو تفوق 140 % عن العام السابق، هذا التحول لا يمكن قراءته بمعزل عن ضعف جاذبية السوق المحلي في بعض فتراته، ولا عن بحث السيولة المحلية عن بيئات أكثر وضوحًا واستقرارًا.
وبينما تتوسع الفرص المتاحة في السوق السعودية مع تسارع الطروحات وتنوع القطاعات ونمو الاقتصاد غير النفطي، فإن المفارقة تكمن في أن المؤسسات المحلية لم تلتقط هذه الفرص بالزخم المتوقع، فبدلًا من تعزيز وجودها في سوق يُفترض أنه يدخل مرحلة توسّع تاريخية، اتجه جزء من السيولة نحو أسواق خارجية، ما يعمّق السؤال الجوهري: هل المشكلة في غياب الفرص، أم في مستوى الوضوح واليقين الذي تحتاجه المؤسسات قبل أن تراهن بأموالها في الداخل؟
الهيئة لم تخطئ في رؤيتها لطموح السوق السعودي ولا في مسار تطوره التنظيمي، لكن العتب يأتي من اتساع الفجوة بين الخطاب والنتائج. فالتوازن لا يتحقق بالتصريحات، بل بقراءة واقعية لسلوك المؤسسات، وبسياسات تستوعب تحولات السيولة واحتياجات المستثمرين، وتُعيد ثقة رأس المال المحلي في أن السوق قادر على التجاوز لا بالآمال بل بالمعطيات.
نقلا عن الرياض


